«ترندات» تصنع «ذوق» الجيل عبر مختبرات «المؤثرين»
الثلاثاء - 25 نوفمبر 2025
Tue - 25 Nov 2025
في عصر السرعة الرقمية، لم يعد التغيير يأتي عبر الأجيال، بل عبر الشاشات؛ ففي اللحظة التي تتبدل فيها الموضات أسرع من حركة الإبهام على شاشة الهاتف، يجد «الجيل الجديد» نفسه غارقا في دوامة يومية من «الترندات» التي باتت تحدد بشكل شبه كامل خياراته الاستهلاكية، الغذائية، وحتى الاجتماعية.
لقد تجاوزت هذه الظاهرة حدود التحديات الترفيهية العابرة لتتحول إلى منظومة ذات اقتصاد ضخم، ومؤثرين يملكون قوة هائلة على إعادة تشكيل «الذائقة الفردية» واستقلالية القرار، ليصبح الشباب رهينة لمنطق «ما يجب أن يرغبوا به» بدلا من «ما يرغبون به فعلا».
إن هذا التأثير لم يعد مجرد ملاحظة اجتماعية عابرة، بل هو حقيقة موثقة ومقلقة ترصدها الجهات البحثية حول العالم. وفي سياق لا يخفى على المتابعين، فإن الأثر الأبرز يظهر في «الذائقة الغذائية» للشباب والمراهقين.
كشفت دراسات عالمية، منها ما نشر في مجلة Public Health Nutrition (2025)، أن نسبة هائلة تتجاوز 89% من المحتوى الغذائي الذي يروجه المؤثرون عبر منصات التواصل الاجتماعي لا تتوافق مع إرشادات الصحة العامة. هذه المواد الدعائية تركز على مفاهيم (المرح) و(الطاقة) والطعم المثير)، مصورة إياها كخيارات طبيعية للشباب، بينما هي في جوهرها «رسائل تجارية موجهة بدقة» تهدف إلى رفع نسبة الاستهلاك السريع والسطحي، وبلوغ الربحية الهائلة والسريعة.
وفي مراجعة بحثية واسعة نشرت في منصة PubMed (2022)، تأكد أن التعرض المتكرر لهذا النوع من المحتوى الرقمي يعزز استهلاك المأكولات السريعة والوجبات الخفيفة عالية السعرات الحرارية بين الأطفال والمراهقين، مقابل تراجع كبير وملحوظ في تناول الخضراوات والفواكه. وهي نتيجة تتطابق مع القلق الذي يعيشه الآباء والمعلمون في محيطنا المحلي حيال «تغير النمط الغذائي» لأبنائهم.
المشكلة لا تقتصر على نوعية الغذاء المعروض، بل تتعداه إلى سلوكيات الحياة اليومية؛ مجلة Healthcare (2025) أشارت إلى وجود ارتباط مباشر بين الاستخدام المفرط لتطبيقات «التواصل الاجتماعية» وبين ظهور سلوكيات غذائية غير صحية واضطرابات في جودة النوم لدى المراهقين.
فـ«الترند الغذائي» لم يعد مجرد اختيار وجبة عابرة، بل تحول إلى محفز سلوكي يمتد تأثيره ليخل بانتظام العادات اليومية، بما في ذلك تخطي وجبة الفطور وتفضيل المشروبات السكرية على نحو ما وثقته مجلة Nature – Pediatric Research (2025).
ما يزيد الأمر تعقيدا هو الغياب الواسع للشفافية في المحتوى المروج. تشير دراسة في مجلة JMIR (2025) إلى أن نسبة كبيرة من المؤثرين «لا يصرحون بأن محتوى الطعام والمشروبات الذي يقدمونه هو محتوى دعائي خالص». هذا «التغليف غير الشفاف» يجعل المتابع، وخصوصا في فئة المراهقين الأقل خبرة، يعتقد أن المنتج هو جزء طبيعي من حياة المؤثر المثالية، ما يدفعه لتبنيه واستهلاكه دون أدنى وعي بالرسالة التسويقية الخفية. وتحذر مجلة Journal of Behavioral Nutrition and Physical Activity (2024) من أن البيئة الرقمية الحالية «غير منظمة بما يكفي»، ما يسمح بتأثير واسع وغير خاضع للرقابة على الذائقة الاستهلاكية.
ولأن المملكة ليست بمعزل عن هذه التيارات، فقد وثقت دراسة سعودية منشورة في منصة PubMed (2024) ارتباطا واضحا بين متابعة محتوى التواصل الاجتماعي «السوشيال ميديا» وارتفاع استهلاك مشروبات الطاقة لدى المراهقين داخل المملكة، وهذا دليل على أن سلوكيات الاستهلاك المحلي تتأثر بقوة بالترندات العالمية والإقليمية.
إن الترندات، بطبيعتها، يمكن أن توفر مساحة للاكتشاف والتجربة، لكن المشكلة تكمن في اللحظة التي تتحول فيها إلى «معيار ذوقي قسري» يفرض نفسه على الفرد. يصبح الشاب أسيرا لـ«خيارات معلبة» جاهزة، ويفقد تدريجيا قدرته على تطوير هوية ذوقية خاصة أو اتخاذ قرارات استهلاكية مستقلة ومبنية على الوعي والقيمة.
إن تأثير «الترند» على الجيل الجديد ليس تأثيرا عابرا أو سطحيا، بل هو تأثير بنيوي يمس جوهر السلوك والخيارات والعادات اليومية. والسؤال الذي يجب أن يطرح اليوم على كل أب وأم ومرب، وعلى كل شاب يمسك هاتفه الجوال، هل نمتلك الوعي الكافي لتمييز ما نريده نحن فعلا، عن ما يراد لنا أن نرغبه؟
alsheddi@