باسم سلامه القليطي

تحالف يصنع المستقبل... ومملكة تعيد ترتيب موازين العالم

الخميس - 20 نوفمبر 2025

Thu - 20 Nov 2025

لم يكن دخول سمو ولي العهد إلى رحاب البيت الأبيض مجرد مناسبة دبلوماسية تؤدى بوقار البروتوكول، بل مشهد فخم يحمل في صمته رجعا لتاريخ طويل، ويستشرف في هيبته ملامح عصر يعاد رسمه. لحظة تترفع عن العابر، وتستقر في وجدان السياسة بوصفها علامة فارقة، إذ وقفت المملكة بثقل رؤيتها، لا بثقل مواردها، وبحضور قيادتها، لا بظلال تأثير موروث من الماضي. بدا الاستقبال كأنه اعتراف دولي بمكانة تنتزع بالعمل لا بالصدفة، وبقدرة دولة تصوغ موقعها الجديد في العالم بيدها، لا بيد الآخرين. هناك، بين الأعلام المتقابلة وخطوات الموكب الواثق، تردد صدى عبارة واحدة: إن المملكة لم تعد تسير خلف التحولات، بل صارت من صانعي اتجاهها.

وحين جلس سمو ولي العهد إلى جوار الرئيس الأمريكي للتوقيع على اتفاقية الدفاع الاستراتيجية، لم يكن التوقيع حدثا عسكريا كما يتصور البعض، بل كان خطوة تعيد تعريف الأمن نفسه. فالأمن، في عالم تتقاطع فيه المصالح وتتشابك الأخطار، لم يعد بندقية وجنديا فقط، بل شبكة علاقات تنظم ميزان القوى وتمنح المنطقة استقرارها. الاتفاقية كانت إعلانا أن السلام قرار، وأن حماية الإنسان مسؤولية مشتركة، وأن التحالف حين يبنى على الاحترام، يصبح حصنا تؤمن به قلوب الشعوب قبل جيوش الدول. في تلك اللحظة بدا الزمن وكأنه يتوقف احتراما لقرار سيغير شكل الغد، ويجعل من العلاقة بين البلدين أكثر رسوخا واتزانا.

لكن الأعمق من السياسة كان التحول الذي يصنعه الوطن بصمت مدروس: تحالف لم يعد قائما على النفط وحده، بل على التقنية والاقتصاد والابتكار. لم تعد المملكة طرفا في معادلة طاقة فقط، بل لاعب رئيسي في معادلة النفوذ العالمي الجديد: الطاقة المتجددة، البيانات، الحوسبة، والذكاء الاصطناعي. إنه تحول في الهوية، من دولة موارد إلى دولة أدوات وتأثير. دولة لا تبيع فقط، بل تنتج وتبتكر وتعيد تشكيل موقعها في قلب الاقتصاد العالمي. هذا التحول ليس انتقالا من مرحلة إلى مرحلة، بل ولادة لنموذج سعودي حديث، أقرب إلى أن يكون رؤية تترجم على الأرض، لا خطابا يقال في القاعات.

لم يكن توقيع الاتفاقية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي مجرد تعاون تقني بين دولتين، بل كان إعلانا صريحا عن دخول المملكة ميدان المستقبل من بوابة صناعته لا من بوابة استهلاكه. ففي قاعة التوقيع، حيث تتقاطع نظرات القادة بخيوط الرؤية، بدت المملكة كأنها تزيح الستار عن فصل جديد تسهم فيه بقدراتها وكفاءاتها وطاقتها البشرية قبل تقنياتها. فالذكاء الاصطناعي ليس أداة باردة تدار بالأرقام وحدها، بل ميدان تتجلى فيه قيمة الإنسان وقدرته على تحويل المعرفة إلى أثر. وهنا تتقدم المملكة بثبات، لا لتلحق بمن سبق، بل لتشارك في وضع معايير الغد، وفي رسم الحدود التي سيتشكل عندها العالم القادم. إنها لحظة تقول للعالم: إن نهضة المملكة ليست في مواردها، بل في عقولها، ولا في ما تملك، بل في ما تستطيع أن تبدع وتصنع.

وفي سياق هذا التحول، تبدو الصناعة المحلية حجر الزاوية. فبناء المصانع ليس مشروعا اقتصاديا فحسب، بل موقف وطني يقول "لن نترك مصير اقتصادنا رهن سلاسل الإمداد". العالم يتغير بسرعة، ومن لا يمتلك أدواته سيظل متأثرا بقرارات الآخرين. المملكة باختيارها التصنيع المحلي تحصن اقتصادها من الأزمات، وتمنح القطاع الصناعي سيادة وحيوية، وتؤسس لمرحلة تعتمد فيها على قدراتها الذاتية دون أن تنعزل عن العالم. إنها معادلة دقيقة بين الانفتاح والسيادة، بين التعاون والاعتماد على النفس، معادلة لا تتقنها إلا الدول التي تثق بخطواتها وتعرف إلى أين تتجه.

وهكذا، يقف التاريخ شاهدا على لحظة تتجاوز الزمان والمكان، لحظة لا تختصر في زيارة أو توقيع، بل في ولادة عهد جديد للمملكة، عهد تصنع فيه إرادتها، وتخط فيه ملامح المستقبل بوعي وعزم. من البيت الأبيض إلى قلب الرياض، تمتد خيوط الرؤية السعودية متينة، كأنها جسر يربط بين الحلم والعمل، بين الطموح والقدرة، بين الإرادة والفعل. لم تعد المملكة مجرد طرف في معادلة العالم، بل صارت قوة فاعلة، تصوغ الأحداث وتعيد رسم المشهد الدولي، بشراكة تقوم على الاحترام والمصالح المشتركة، وبعقل يحول الرؤية إلى واقع.

إنها لحظة تنطق بأن زمن المملكة الجديد قد بدأ، زمن تكتب فيه الإنجازات بحبر الإرادة، وترسم فيه العظمة بيد تصنعها، لا بيد تلقى لها الصدف. ومن هذه اللحظة، يبدو واضحا أن المملكة العربية السعودية لم تعد تبحث عن مكان بين الأمم، بل صارت من يحدد المكان، ومن يكتب التاريخ.