الفراغ الوجودي
الثلاثاء - 18 نوفمبر 2025
Tue - 18 Nov 2025
من الملاحظ جدا أن حالة الركض المستمرة التي يمر الإنسان فيها والتي أعتقد يتشارك فيها الكثير من الناس في هذا العصر الذي نعيشه، الممتلئ جدا بالمشاغل والملهيات وكثرة الأجندة في القائمة اليومية، قد تكون من أبرز العوامل التي تشغل الإنسان عن أهدافه الوجودية الكبرى والعليا، ويعرف ذلك ويشعر به من يجرب عن قصد ونية فكرة الاعتزال المؤقت الخالي من المشتتات ويتعمق في تأمل تلك الأهداف مع ما يقابلها من الانشغالات اليومية، سيجد ذلك الفراغ واضحا ويرى بالعين المجردة، ويعي ذلك أن حركة تروس المشاغل اليومية تضع غبارها المتكوم على تلك الأهداف العليا.
دعني أغوص قليلا في تفصيل الإشكال، ففهم المشكلة في كثير من الأحيان هو أكثر من نصف الحل. عندما لا يملك الإنسان أهدافا عليا واضحة، تصبح حياته محكومة بتروس المشاغل اليومية ودورانها الذي لا يهدأ. ومع غياب البوصلة الداخلية، تتحرك غاياته وفق إيقاع الحياة السريع، لا بحسب اختياراته هو، فينشغل كثيرا لكنه بلا اتجاه حقيقي.
فيكتور فرانكل طبيب نفسي نمساوي ومؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy) مؤلف الكتاب الشهير الإنسان يبحث عن معنى، كان يشير إلى ما سماه الفراغ الوجودي (Existential Vacuum)؛ تلك الحالة التي يفقد فيها الإنسان إحساسه بالمعنى، فلا يرى سببا داخليا ذا قيمة ينطلق منه. كان يرى أن الحافز الأعمق للإنسان ليس اللذة ولا السعي للسلطة، بل البحث عن معنى يعيش من أجله. وعندما يغيب هذا المعنى يبدأ الإنسان بالدوران حول تفاصيل الحياة دورانا متعبا، كثير الحركة قليل الاتجاه، وكأنه يمشي بلا بوصلة.
وفي نظري، نحن نعيش اليوم شكلا متسارعا من هذا الإشكال. فالدوران السريع للأحداث، وتراكم المتغيرات، وكثرة المشتتات، تجعل الإنسان أقرب للابتعاد عن أهدافه الوجودية إذا كانت معرفة سلفا، ومن لم يكتشف هدفه بعد يصبح أبعد ما يكون عن العثور عليه، لأن الضجيج الخارجي يغطي على صوته الداخلي.
هكذا يظهر الفراغ الوجودي في صورته الحديثة: حركة بلا اتجاه، وتسارع بلا معنى، وركض لا يقود إلى نقطة وصول.
إشكالية هذا التيه تكمن في أنه قد يلبس شكل حياة مرتبة ومنظمة، لكنه في جوهره بوصلة فاقدة لاتجاهها الشمالي وعابرة للزمن. تمر الشهور والسنون، وتأتي لحظات الإدراك، ربما متأخرة، لتردد التساؤل المؤلم: ما هذا الوهم الذي أعيشه؟
أسأل الله أن يلهمني والقارئ الكريم، المعرفة والإدراك والقدرة على التطبيق، حتى لا نسلك تلك المسارات بهذه الطريقة، ولا تقارعنا تلك الأسئلة المؤلمة.
يرى فرانكل أن المعنى الحقيقي للحياة لا ينبع من الانغماس في الملذات أو الانشغال بردود الفعل تجاه دوامة الحياة اليومية، بل من اكتشاف الهدف الشخصي وتحمله بوعي ومسؤولية. حين يعي الإنسان غايته ويعيشها بصدق، يتحول الدوران بلا بوصلة إلى مسار ذي اتجاه ومعنى، ويملأ الفراغ الوجودي بالغاية، فتصبح كل لحظة في الحياة ذات قيمة ووجوده له أثر واتجاه.
الموضوع ذو شجون، وقد يحمل طابعا فلسفيا، لكنه يفتح أمام الإنسان أفقا واسعا: رحلة لاكتشاف معنى يملأ الروح، ويحول الفراغ الوجودي إلى قوة، ويرتبط بأوثق عرى الحياة في تلك الأسئلة الوجودية وأجوبتها المتعلقة بمن أنا؟ وماذا؟ إلى أين؟ وكيف؟ في هذه الرحلة، يبدأ الإنسان بفهم ذاته، واكتشاف أهدافه، ومواجهة مخاوفه، ويصبح كل يوم فرصة جديدة لبناء وعيه وإرادته. وهكذا تتحول الحياة من مجرد دوران بلا بوصلة إلى مسار واضح المعالم، يعطي لكل لحظة قيمتها ولكل تجربة معناها. يصبح الإنسان حينها قائدا يرسم مساره بنفسه، لا مجرد تابع لمسارات وجدها أمامه وسار فيها، وعندها حتما سيترك وراءه تلك الآثار التي يقال عنها بعده: مر من هنا وهذا الأثر.