هل أنت بخير؟!
الثلاثاء - 18 نوفمبر 2025
Tue - 18 Nov 2025
ينهمر ضوء الشمس من النافذة ليختلط بالسيناريوهات التي تدور في رأسي.. أتنفس بعمق ثم أنظر في المرآة لأبتسم وأتمتم: أنا بخير، الحمد لله دائما وأبدا... غير أن المخاوف تختبئ في نبض القلب وتستتر خلف الملامح، ثم تتسلل عبر المشاعر والكلمات. عندي تراكم مخيف للأصوات المخنوقة، والأمنيات الصامتة، وأسئلة لا تجد طريقها الشرعي إلى الخارج.
هناك ملايين الناس حول العالم يقفون أمام المرآة مثلي وربما يقولون العبارة ذاتها... في الرسائل والمحادثات، وحين يسألهم الآخرون، يقولونها تلقائيا كتعويذة يومية ضد الانهيار. بل إن هناك من يقولها خوفا من الاعتراف بأنه يتأرجح على شفى حفرة من الانكسار.
فما الذي يحدد أننا بخير؟ هل هو الصوت؟ أم الابتسامة؟ أم كيف نبدو أمام الآخرين؟ إجابة هذه الأسئلة تتداخل فيها عوامل متعددة؛ فنحن مزيج معقد من عناصر تتعلق بالجينات، والصحة الجسدية، والقدرة على التكيف مع الضغوط، وعناصر اجتماعية مرتبطة بالدعم الأسري والعلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى عوامل ثقافية واقتصادية وبيئية كالدخل والاستقرار والحالة النفسية.
ورغم ضغوط العصر، فإن التقدم العلمي والتقني منح الإنسان أدوات أفضل لحماية صحته النفسية؛ هناك وعي أعلى، ومعرفة يسهل الوصول إليها، ووسائل تعزز قدرته على مواجهة الإجهاد. وهكذا باتت إمكانات العافية اليوم أرحب من أي وقت مضى، بحيث تهيأ للفرد صياغة علاقته بالعالم بوعي واتزان.
فمن يحدد يا ترى أننا «كويسين»؟ هل هي قدرتنا على الاعتراف بالدوامة التي تجري بداخلنا؟ قد يبقى أحدنا محدقا في سقف غرفته المظلمة بعد الساعة الثالثة صباحا، رأسه مثقل بمسؤوليات عائلية متراكمة، مهام عمل متأخرة، ورسائل الكترونية تنتظر الرد. سيناريوهات تتكرر يوميا للكثيرين ناجمة عن ضغوط المعيشة والعمل المفرطة، وتمرير مستمر للأخبار السيئة عبر الشاشات والأجهزة. يا ترى ما الذي يرسم حدود العافية؟
الواقع أن الكثيرين يربطون العافية بالبهجة الدائمة والإنتاجية المستمرة، فيما يراها آخرون في التوازن الداخلي والوعي بالذات. لكن الحقيقة أن المعافاة هي نتاج منظومة كاملة؛ تصوغها السياسات المجتمعية قبل أن يتحملها الفرد. وهي انعكاس للثقافة والمرحلة الزمنية التي نعيشها. فبعض المجتمعات يربطها بقوة التحمل والاستقلالية، بينما يراها آخرون في جودة العلاقات والتكافل الاجتماعي.
غير أن الإشكالية الخطيرة هنا أن العافية اختزلت في تمجيد الإيجابية المطلقة وتجريم الحزن، ما يدفع الفرد إلى الشعور بأنه مطالب بارتداء قناع السعادة طوال الوقت، وأنه سيكون منبوذا لو ذرف دمعة واحدة. فقد أظهرت دراسة منشورة في دورية Scientific Reports عام 2022، شملت 40 دولة، أن الضغط الجمعي لتصنع السعادة يخفض فعلا مستويات الرغد الشخصي، خصوصا في البلدان المتصدرة لمؤشرات «الأكثر سعادة». فكلما ازداد الهوس بالبهجة الظاهرية تراجعت الصحة النفسية الحقيقية، في مفارقة لافتة وصادمة.
ووفقا لمنظور علم النفس الحديث، تقدم عالمة النفس كارول ريف نموذجا يعيد تعريف العافية النفسية، محررا إياها من مجرد الشعور بالسعادة أو اللحظات العابرة من البهجة. فهي ترى أن الرفاه الحقيقي ينبع من ستة أبعاد جوهرية: المعنى والهدف في الحياة، النمو الشخصي المستمر، العلاقات الإنسانية الداعمة، القدرة على مواجهة التحديات والصمود أمامها، قبول الذات بما لها وما عليها، وأخيرا الاستقلالية مع الإحساس بالتحكم في مسار الحياة. هذا التصور ينقل العافية من كونها «مسألة مزاج» إلى كونها يقينا عميقا يتشكل من «أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك».
وللأسف ترسخ الثقافة المعاصرة ثلاث صور مضللة لمفهوم العافية النفسية؛ تتمثل الأولى في اشتراط الابتسامة الدائمة بوصفها دليلا على «الإيجابية»، بما يفضي إلى كبت المشاعر الحقيقية وإخفاء المعاناة. أما الثانية فتتمثل في أسطورة النجاح المتواصل بوصفه معيارا للقيمة الذاتية، وهو ما يسهم في تعميق ظاهرة الاحتراق المهني وتآكل الدافعية. وتكمن الصورة الثالثة في تمجيد كبت الانفعال باعتباره قوة شخصية، رغم كونه أحد أشكال الإيجابية السامة التي تراكم الألم بدلا من معالجته.
تقول فيرجينيا وولف «ليس ثمة راحة في أن تكون بخير دائما، إنما في أن تدرك أنك لست بخير، ومع ذلك تواصل السير». أن تكون بخير لا يعني أن تعيش بلا خوف أو تعب أو دموع؛ بل أن تعترف بأنك كائن هش وقوي في آن واحد، وأن لك حقا في الراحة كما لك دورا في المحاولة. ربما لن نستطيع أن نغير العالم، لكن بوسعنا أن نخفف من قسوته حين نتوقف عن مطالبة أنفسنا والآخرين بأن يكونوا دوما على ما يرام.
وبالمناسبة أطمئنكم... أنا بخير.
فكونوا دوما بخير.