الخير الذي يفسد العدالة
الاثنين - 17 نوفمبر 2025
Mon - 17 Nov 2025
أحيانا لا يولد الخلل من الشر، بل من نية طيبة أسيء فهمها.
في عالم المحاماة، حيث توزن الكلمات بميزان الحق وتقدر الدقائق بثمن التجربة، يظهر نوع من المحامين الذين يريدون أن "يفعلوا خيرا" - باعتقادهم - يقدمون خدماتهم مجانا، أو يخفضون أتعابهم إلى الحد الذي يكاد يبطل معنى القيمة، يظنون أنهم بذلك يقربون العدالة إلى الناس، لكنهم في الحقيقة يبعدونها عن الاستقامة... "فالخير، حين ينزع من سياقه، قد يصبح وبالا".
فما يبدو تضحية كريمة من محام يريد مساعدة الآخرين، قد يكون خنجرا في خاصرة المهنة، وفي خاصرة العدالة نفسها؛ إذ إن العدالة - مثل أي نظام متكامل - تحتاج إلى موارد لتستمر، فهي تحتاج إلى وقت يستثمر، وجهد يثمن، ومكاتب تدار، وبحوث تنجز... حين يصبح "الخير" عادة بلا حساب، تتحول المهنة إلى عبء لا إلى رسالة، ويتحول المحامي إلى عامل مجاني في مؤسسة العدالة الكبرى، بينما تتآكل قيمة القانون في نظر المجتمع، المشكلة ليست في فعل الخير نفسه، بل في الخلط بين "الرسالة" و"المهنة".
المحاماة تحمل رسالة نبيلة بلا شك، لكنها أيضا تقع ضمن القطاع الخاص وهو قطاع ربحي بالأساس... فهي جزء من الدورة الاقتصادية، وليست ضمن الجمعيات الخيرية... المحامي لا يبيع ضميره، لكنه يبيع وقته وخبرته وخلاصات سنوات من الدراسة والممارسة والبحث، وهذا البيع ليس عيبا، بل هو الضمان الوحيد لاستمرار العدالة على نحو احترافي ومستدام... حين نطالب الطبيب أن يعالج بالمجان، فنحن هنا نضع من الطب... وحين نطالب المهندس أن يبني دون أجر، فإننا نستنقص البناء والهندسة... وحين نطلب من المحامي أن يعمل بلا مقابل، فإننا نكسر الميزان الذي تقوم عليه العدالة، ونهدم بأيدينا فكرة أن الحق له قيمة تستحق أن تصان وتدفع.
ومع ذلك، يظل في كل جيل من يظن أن كرم المحامي هو معيار نبله، لا جودة عمله... فيصفق لمن يعمل مجانا، ويهاجم من يطلب أجره... وهكذا، شيئا فشيئا، تتكون ثقافة تعاقب الجدية وتكافئ العشوائية... لقد كان المحامي في أصل المفهوم الاقتصادي أحد ركائز السوق القانونية، شريكا في صناعة الأمان القانوني الذي تستند إليه التجارة والاستثمار والمجتمع المدني... لكن حين يتحول إلى "فاعل خير دائم"، فإنه يخرج من معادلة القيمة ويدخل في معادلة الضعف... فالعمل القانوني الجيد لا يقاس بالنيات، بل بقدرة المحامي على الاستمرار... والاستمرار لا يتحقق بالطيبة وحدها، بل بالربحية.
الذين يظنون أن العدالة تقدم بلا ثمن، ينسون أن العدالة ليست فكرة تطفو في الهواء، بل منظومة تحتاج إلى وقت، وجهد وأدوات ومعرفة... كل استشارة قانونية دقيقة تتطلب قراءة عشرات الأنظمة، ومقارنة السوابق، وتحليل الوقائع، وإدارة المخاطر... هذا الجهد الفكري والميداني له قيمة اقتصادية... من يلغيه بحجة "الخير"، ينسف فكرة العدالة من أساسها، لأنها - ببساطة - لا تعيش بلا تمويل.
"ثم إن الخير العاطفي، في المحاماة، قد يفسد أكثر مما يصلح".
فالمحامي الذي يقدم خدمات مجانية لعملاء بدافع المساعدة، قد يظن أنه يمنحهم عدالة، بينما يمنحهم وهما بالعدالة... لأن العمل المتقن يحتاج وقتا واستقرارا، وهما لا يتوافران في مهنة تمارس بدافع العطف لا بدافع التخصص، وهكذا تتراكم الأخطاء الصغيرة: استشارة ناقصة، عقد غير مدروس، دفاع مرتجل... حتى يتحول "الخير" إلى ضرر مضاعف، يتعدى العميل إلى المهنة كلها.
"العدالة ليست إحسانا، بل نظام"...وحين نحاول أن نجعلها عملا خيريا، نكسر توازنها. لأن كل نظام قانوني قوي يقوم على ثلاث ركائز: التشريع، والقضاء، والمحاماة. فإذا اعتبرنا أن المحاماة لا تستحق أجرها، فسنفقد واحدة من الركائز التي تحفظ توازن العدالة في المجتمع... في بعض الدول التي انهارت فيها هيبة المهنة، لم يكن السبب الفساد أو الجهل فقط، بل ثقافة الإحسان المفرط... ثقافة تقول للمحامي: كن طيبا، واعمل مجانا، فهذه رسالة.
فأصبح كثير من المكاتب عاجزة عن تطوير كوادرها، ولا تملك موارد لتدريب موظفيها أو تحديث أدواتها... وفي النهاية، تراجعت جودة الخدمات القانونية، فتراجعت العدالة نفسها.
"الربح في المحاماة ليس أنانية، بل مسؤولية".
حين يكون المكتب القانوني قويا ماليا، يستطيع أن يوظف كفاءات، ويدرب شبابا، ويستثمر في البحث والابتكار، ويقدم مبادرات مجتمعية منظمة... أما حين يكون ضعيفا، فإنه يضطر إلى اختزال الجهد، وتقليص الجودة، ورفض القضايا الصعبة، المفارقة أن الربح هو ما يضمن استمرار الخير الحقيقي.
الخير في المهنة ليس أن تقدم استشارتك بالمجان... بل أن تقدمها باحتراف وعدالة وجودة، وأن تخلق منظومة تمكنك من مساعدة من يستحق فعلا، لا من يطلب فقط.
الخير ليس في التنازل عن القيمة... بل في الدفاع عنها.
لأن المجتمع لا يحترم ما لا يكلفه شيئا.
ولذلك، فإن المحامي الذي يصر على أخذ أجره العادل، لا يقل نبلا عن الذي يتبرع بعمله، بل ربما هو أكثر إخلاصا للعدالة، لأنه يحافظ على كرامة المهنة ويمنع انحدارها إلى العمل العشوائي... العدالة تحتاج إلى عقول راكزة، لا إلى قلوب متسرعة، والحق أن بعض المحامين الذين يتهمون بالصرامة في الأتعاب هم في الحقيقة أكثر إخلاصا للمهنة ممن يغرقونها بالعطاء العاطفي... لأنهم يدركون أن المحاماة لا تعيش إلا في ظل احترام متبادل: احترام المجتمع لقيمة الخدمة، واحترام المحامي لحق العميل في الجودة، واحترام المهنة لنفسها كقطاع اقتصادي متكامل.
إن أعظم ما يمكن أن يفعله المحامي "الخير" هو أن يجعل خيره منظما، مؤسسيا، منضبطا. أن ينشئ برامج دعم قانوني للفئات المستحقة تحت إشراف النقابة أو الجمعيات المتخصصة، لا أن يوزع جهده بارتجال. لأن الخير العشوائي - مهما حسنت نيته - يربك السوق القانونية، ويفتح الباب أمام استغلال متخف بثوب الإحسان.
في نهاية الأمر، الخير الذي لا يلتزم بنظام يقتل النظام الذي أراد أن يخدمه.
والعدالة، كي تبقى، تحتاج إلى من يدفع ثمنها، وإلى من يقدر هذا الثمن.
المحامي ليس خصما للخير، بل حارس له. لكنه حارس يعرف أن الكرم بلا وعي قد يفتح باب الفوضى، وأن التنازل عن القيمة لا يقرب الناس من العدالة، بل يقرب العدالة من الانهيار.
الخير لا يكون دائما فيما نعطيه، بل أحيانا فيما نمنعه.
أن تمنع نفسك من خفض الأتعاب حين تعلم أن ذلك سيضر بزملائك، خير.
أن ترفض تقديم استشارة بلا مقابل لأنها تخرق أخلاقيات السوق، خير.
أن تصون المهنة من التلاعب العاطفي باسم الإحسان، خير أعظم.
فالمحاماة، في جوهرها، ليست عملا خيريا ولا تجارة بحتة، بل هي توازن دقيق بين الأخلاق والاقتصاد.
كلما اختل هذا التوازن، ضاعت العدالة بين النوايا الحسنة والنتائج السيئة.
وهكذا... يتحول الخير أحيانا إلى وبال.
ليس لأنه شر، بل لأنه لم يمارس بعقل قانوني واع.
ولعل أسوأ ما قد يفعله المحامي بمهنته هو أن يحبها أكثر مما يحترمها.
في عالم المحاماة، حيث توزن الكلمات بميزان الحق وتقدر الدقائق بثمن التجربة، يظهر نوع من المحامين الذين يريدون أن "يفعلوا خيرا" - باعتقادهم - يقدمون خدماتهم مجانا، أو يخفضون أتعابهم إلى الحد الذي يكاد يبطل معنى القيمة، يظنون أنهم بذلك يقربون العدالة إلى الناس، لكنهم في الحقيقة يبعدونها عن الاستقامة... "فالخير، حين ينزع من سياقه، قد يصبح وبالا".
فما يبدو تضحية كريمة من محام يريد مساعدة الآخرين، قد يكون خنجرا في خاصرة المهنة، وفي خاصرة العدالة نفسها؛ إذ إن العدالة - مثل أي نظام متكامل - تحتاج إلى موارد لتستمر، فهي تحتاج إلى وقت يستثمر، وجهد يثمن، ومكاتب تدار، وبحوث تنجز... حين يصبح "الخير" عادة بلا حساب، تتحول المهنة إلى عبء لا إلى رسالة، ويتحول المحامي إلى عامل مجاني في مؤسسة العدالة الكبرى، بينما تتآكل قيمة القانون في نظر المجتمع، المشكلة ليست في فعل الخير نفسه، بل في الخلط بين "الرسالة" و"المهنة".
المحاماة تحمل رسالة نبيلة بلا شك، لكنها أيضا تقع ضمن القطاع الخاص وهو قطاع ربحي بالأساس... فهي جزء من الدورة الاقتصادية، وليست ضمن الجمعيات الخيرية... المحامي لا يبيع ضميره، لكنه يبيع وقته وخبرته وخلاصات سنوات من الدراسة والممارسة والبحث، وهذا البيع ليس عيبا، بل هو الضمان الوحيد لاستمرار العدالة على نحو احترافي ومستدام... حين نطالب الطبيب أن يعالج بالمجان، فنحن هنا نضع من الطب... وحين نطالب المهندس أن يبني دون أجر، فإننا نستنقص البناء والهندسة... وحين نطلب من المحامي أن يعمل بلا مقابل، فإننا نكسر الميزان الذي تقوم عليه العدالة، ونهدم بأيدينا فكرة أن الحق له قيمة تستحق أن تصان وتدفع.
ومع ذلك، يظل في كل جيل من يظن أن كرم المحامي هو معيار نبله، لا جودة عمله... فيصفق لمن يعمل مجانا، ويهاجم من يطلب أجره... وهكذا، شيئا فشيئا، تتكون ثقافة تعاقب الجدية وتكافئ العشوائية... لقد كان المحامي في أصل المفهوم الاقتصادي أحد ركائز السوق القانونية، شريكا في صناعة الأمان القانوني الذي تستند إليه التجارة والاستثمار والمجتمع المدني... لكن حين يتحول إلى "فاعل خير دائم"، فإنه يخرج من معادلة القيمة ويدخل في معادلة الضعف... فالعمل القانوني الجيد لا يقاس بالنيات، بل بقدرة المحامي على الاستمرار... والاستمرار لا يتحقق بالطيبة وحدها، بل بالربحية.
الذين يظنون أن العدالة تقدم بلا ثمن، ينسون أن العدالة ليست فكرة تطفو في الهواء، بل منظومة تحتاج إلى وقت، وجهد وأدوات ومعرفة... كل استشارة قانونية دقيقة تتطلب قراءة عشرات الأنظمة، ومقارنة السوابق، وتحليل الوقائع، وإدارة المخاطر... هذا الجهد الفكري والميداني له قيمة اقتصادية... من يلغيه بحجة "الخير"، ينسف فكرة العدالة من أساسها، لأنها - ببساطة - لا تعيش بلا تمويل.
"ثم إن الخير العاطفي، في المحاماة، قد يفسد أكثر مما يصلح".
فالمحامي الذي يقدم خدمات مجانية لعملاء بدافع المساعدة، قد يظن أنه يمنحهم عدالة، بينما يمنحهم وهما بالعدالة... لأن العمل المتقن يحتاج وقتا واستقرارا، وهما لا يتوافران في مهنة تمارس بدافع العطف لا بدافع التخصص، وهكذا تتراكم الأخطاء الصغيرة: استشارة ناقصة، عقد غير مدروس، دفاع مرتجل... حتى يتحول "الخير" إلى ضرر مضاعف، يتعدى العميل إلى المهنة كلها.
"العدالة ليست إحسانا، بل نظام"...وحين نحاول أن نجعلها عملا خيريا، نكسر توازنها. لأن كل نظام قانوني قوي يقوم على ثلاث ركائز: التشريع، والقضاء، والمحاماة. فإذا اعتبرنا أن المحاماة لا تستحق أجرها، فسنفقد واحدة من الركائز التي تحفظ توازن العدالة في المجتمع... في بعض الدول التي انهارت فيها هيبة المهنة، لم يكن السبب الفساد أو الجهل فقط، بل ثقافة الإحسان المفرط... ثقافة تقول للمحامي: كن طيبا، واعمل مجانا، فهذه رسالة.
فأصبح كثير من المكاتب عاجزة عن تطوير كوادرها، ولا تملك موارد لتدريب موظفيها أو تحديث أدواتها... وفي النهاية، تراجعت جودة الخدمات القانونية، فتراجعت العدالة نفسها.
"الربح في المحاماة ليس أنانية، بل مسؤولية".
حين يكون المكتب القانوني قويا ماليا، يستطيع أن يوظف كفاءات، ويدرب شبابا، ويستثمر في البحث والابتكار، ويقدم مبادرات مجتمعية منظمة... أما حين يكون ضعيفا، فإنه يضطر إلى اختزال الجهد، وتقليص الجودة، ورفض القضايا الصعبة، المفارقة أن الربح هو ما يضمن استمرار الخير الحقيقي.
الخير في المهنة ليس أن تقدم استشارتك بالمجان... بل أن تقدمها باحتراف وعدالة وجودة، وأن تخلق منظومة تمكنك من مساعدة من يستحق فعلا، لا من يطلب فقط.
الخير ليس في التنازل عن القيمة... بل في الدفاع عنها.
لأن المجتمع لا يحترم ما لا يكلفه شيئا.
ولذلك، فإن المحامي الذي يصر على أخذ أجره العادل، لا يقل نبلا عن الذي يتبرع بعمله، بل ربما هو أكثر إخلاصا للعدالة، لأنه يحافظ على كرامة المهنة ويمنع انحدارها إلى العمل العشوائي... العدالة تحتاج إلى عقول راكزة، لا إلى قلوب متسرعة، والحق أن بعض المحامين الذين يتهمون بالصرامة في الأتعاب هم في الحقيقة أكثر إخلاصا للمهنة ممن يغرقونها بالعطاء العاطفي... لأنهم يدركون أن المحاماة لا تعيش إلا في ظل احترام متبادل: احترام المجتمع لقيمة الخدمة، واحترام المحامي لحق العميل في الجودة، واحترام المهنة لنفسها كقطاع اقتصادي متكامل.
إن أعظم ما يمكن أن يفعله المحامي "الخير" هو أن يجعل خيره منظما، مؤسسيا، منضبطا. أن ينشئ برامج دعم قانوني للفئات المستحقة تحت إشراف النقابة أو الجمعيات المتخصصة، لا أن يوزع جهده بارتجال. لأن الخير العشوائي - مهما حسنت نيته - يربك السوق القانونية، ويفتح الباب أمام استغلال متخف بثوب الإحسان.
في نهاية الأمر، الخير الذي لا يلتزم بنظام يقتل النظام الذي أراد أن يخدمه.
والعدالة، كي تبقى، تحتاج إلى من يدفع ثمنها، وإلى من يقدر هذا الثمن.
المحامي ليس خصما للخير، بل حارس له. لكنه حارس يعرف أن الكرم بلا وعي قد يفتح باب الفوضى، وأن التنازل عن القيمة لا يقرب الناس من العدالة، بل يقرب العدالة من الانهيار.
الخير لا يكون دائما فيما نعطيه، بل أحيانا فيما نمنعه.
أن تمنع نفسك من خفض الأتعاب حين تعلم أن ذلك سيضر بزملائك، خير.
أن ترفض تقديم استشارة بلا مقابل لأنها تخرق أخلاقيات السوق، خير.
أن تصون المهنة من التلاعب العاطفي باسم الإحسان، خير أعظم.
فالمحاماة، في جوهرها، ليست عملا خيريا ولا تجارة بحتة، بل هي توازن دقيق بين الأخلاق والاقتصاد.
كلما اختل هذا التوازن، ضاعت العدالة بين النوايا الحسنة والنتائج السيئة.
وهكذا... يتحول الخير أحيانا إلى وبال.
ليس لأنه شر، بل لأنه لم يمارس بعقل قانوني واع.
ولعل أسوأ ما قد يفعله المحامي بمهنته هو أن يحبها أكثر مما يحترمها.