الدولة بين الفطرة والنظرية: لماذا فشلت الدول المؤدلجة ونجحت التجربة السعودية؟
الأحد - 16 نوفمبر 2025
Sun - 16 Nov 2025
خلال العقود الأخيرة ظل السؤال المربك في التجربة العربية الحديثة يلاحق الباحثين: كيف يمكن لدول امتلكت مؤسسات تعليمية مبكرة وجامعات عريقة ونخبا ثقافية واسعة، أن تتراجع أو تنهار بينما دول أخرى جاءت متأخرة في سباق التعليم استطاعت أن تبني دولا مستقرة وناجحة وقادرة على المنافسة؟ المفارقة لا تفسَر بالمعرفة وحدها ولا بالبنية الاقتصادية فقط بل تتجاوز ذلك إلى الأساس الأعمق الذي بنيت عليه الدولة نفسها. فالتعليم قد يمنح المجتمع أدوات لكنه لا يصنع نهضة إذا كان الإطار السياسي الذي يحتويه مختلا أو مستوردا أو غير منسجم مع ثقافة المجتمع وفطرته. ومن هنا يبدأ البحث في الإجابة: لماذا فشلت دول تعلمت مبكرا، ونجحت أخرى بدأت بعدها، لكنها امتلكت أساسا سياسيا سليما؟
العامل السياسي كان ولا يزال الأساس الذي تقاس عليه قدرة الدول على النهوض أو الانهيار وهو العامل الذي سبق التعليم والاقتصاد في تحديد مسار الدول العربية في القرن العشرين. فالدولة التي تنشئ تعليما واسعا أو اقتصادا يتوسع على الورق دون أن تمتلك نموذجا سياسيا منسجما مع ثقافتها وفطرة مجتمعها تبقى دولة بلا روح وبلا قدرة على البناء المستدام. هذه هي المشكلة الجذرية التي وقعت فيها الدول العربية التي تبكرت في التعليم لكنها أخفقت في تأسيس دولة حديثة متماسكة.
لقد انطلقت تلك الدول من نظريات سياسية وافدة وضعت في بيئات مختلفة تماما: قومية، اشتراكية، ماركسية، بعثية هجينة، وناصرية ذات نفَس تعبوي. ومع أن تلك النظريات حملت وعودا عظيمة إلا أنها جاءت بمقاسات لا تناسب المجتمع العربي لا ثقافيا ولا اجتماعيا ولا نفسيا. الدولة العربية التي ارتدت ذلك الثوب الأيديولوجي ظنت أنها ترتقي لكنها في الحقيقة كانت ترتدي مقاسا لا يخصها. مهما حاولت قص أطرافه أو إطالة أكمامه، ظل غير مريح غير قابل للاستخدام وربما غير قابل للحياة.
هذه النظريات المستوردة لم تمتلك الشرعية الثقافية فهي اصطدمت أولا بفكرة الدولة كما يراها المجتمع العربي، حيث الدولة كيان متجذر في قيم الانتماء وفي مركزية الأسرة وفي رمزية الهوية وفي الدور التاريخي للدين كمصدر للشرعية لا يمكن تجاوزه. واصطدمت ثانيا بفطرة الإنسان العربي «ونقصد بالفطرة الاجتماعية: مجموعة القيم والممارسات والتصورات الراسخة تاريخيا والمقبولة جمعيا، والتي تشكل الإطار المرجعي لفهم المجتمع للعدالة والسلطة والانتماء» الذي لا يرى في الدولة جهازا تقنيا أو فكرة تجريدية بل كيان يحمل معنى: الحماية، العدالة، الانتماء، الاستمرارية. أما الدولة المؤدلجة فقد حاولت تحويل هذا الكيان إلى نص سياسي مغلق وإلى خطاب تعبوي وإلى شعارات لا تمت بصلة إلى حياة الناس اليومية.
هنا انشق الطريق: إذ عاش المجتمع في عالم، وعاشت الدولة في عالم آخر. أصبح الخطاب الرسمي يتحدث عن الثورة، الاشتراكية، الوحدة، تحرير الإنسان، في حين كان المواطن يبحث عن الأمن، والعدالة، ولقمة العيش، واستقرار الأسرة. هذه الفجوة جعلت الدولة «صورية»، لوحة كبيرة ترفع شعارات ضخمة لكنها فارغة من الداخل. فكانت الدولة تعلن عن «معركة التحرير» بينما الفساد ينخر مؤسساتها، وتتحدث عن «العدالة الاشتراكية» بينما النخبة الحزبية تحتكر الامتيازات. دول علقت خطابات الوحدة على الجدران، لكنها لم تستطع بناء جهاز قضاء مستقل أو مؤسسات رقابية أو إدارة عامة فعالة. تحول السياسي إلى «لوغو» ماركة أيديولوجية تسوَق للعالم، لا دولة وظيفية تخدم المواطن.
وحين تسقط النظرية السياسية في الاختبار الواقعي يبدأ النظام بالاعتماد على الأجهزة الأمنية لتعويض غياب الشرعية. هكذا تحولت كثير من الدول العربية إلى دول أمنية لا دول مؤسسات، وبدل أن يكون التعليم أداة للنهضة، أصبح تهديدا للسلطة فتم تحجيمه وتسييسه وربطه بولاء شخصي لا بإنتاج المعرفة. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية لتكمل الحلقة، فدولة بلا نموذج سياسي صحيح لا تستطيع خلق اقتصاد فعال، ولا إدارة مواردها ولا التخطيط لمستقبلها. وهكذا ولدت البطالة، وهاجرت العقول، وانفجرت المدن، وتآكلت الطبقة الوسطى، وتراجع كل شيء: التعليم، الصحة، التنمية، الثقافة، بل حتى معنى الدولة نفسها.
في المقابل ظهرت دول عربية أخرى جاءت متأخرة في التعليم والاقتصاد مقارنة بجيرانها، لكنها امتلكت الأساس الذي غاب عن غيرها: نموذج سياسي منسجم مع الثقافة ومع الفطرة ومع حاجات المجتمع. هذه الدول لم تستورد نظرية جاهزة بل صممت نموذجا يناسبها، نموذجا يعرف بيئته، ويستثمر في قوتها، لا في تقليد الآخرين. وفي مقدمة هذه التجارب المميزة تقف المملكة العربية السعودية كنموذج ناجح لبناء دولة حديثة دون الاصطدام بهويتها أو قسرها داخل أطر أيديولوجية جاهزة.
نجاح التجربة السعودية لم يكن نجاحا إداريا فقط بل كان نجاحا في قراءة المجتمع وإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والناس على أساس متين. لم تعتمد السعودية على أيديولوجيات مستوردة، بل على شرعية تاريخية واجتماعية متجذرة وعلى مفهوم للدولة المركزية التي تقوم بدور الحماية والتنظيم والخدمة لا دور التلقين السياسي. الدولة هنا ليست جهازا فوق المجتمع بل امتداد له، تنمو بنموه وتتطور بتطوره. ولهذا نجحت السعودية في شيء لم تستطع الدول المؤدلجة تحقيقه: صناعة دولة مقبولة اجتماعيا قبل أن تكون قوية إداريا.
وحين جاءت مرحلة التحول الوطني في السنوات الأخيرة جاءت من داخل النموذج نفسه، لا من استيراد نظرية جاهزة. فالإصلاح في السعودية كان تطورا داخليا طبيعيا، لا قطعا مع الماضي ولا قفزا على المجتمع. تم بناء المؤسسات الحديثة وتطوير القضاء، وهيكلة الاقتصاد، وتمكين القطاع الخاص، وتحديث الدولة، لكن كل ذلك تم دون تفكيك الهوية أو مصادمة الفطرة الاجتماعية. وهذا جوهر النجاح: بناء دولة حديثة في بيئة محافظة، دون أن تفقد الدولة شرعيتها أو يشعر المجتمع بالاغتراب.
لا يعني هذا أن المسار السعودي كان خاليا من التحديات. فقد واجهت المملكة إشكاليات الاعتماد على النفط وضرورة التكيف مع متغيرات عالمية متسارعة. لكن الفارق الجوهري أن هذه التحديات عولجت ضمن إطار الانسجام الثقافي والسياسي، لا بالقفز على المجتمع أو استيراد حلول جاهزة.
ما فعلته السعودية هو أنها جعلت السياسة أداة خدمة لا أداة أيديولوجيا. فالدولة ليست منصة خطاب تعبوي، بل جهاز إدارة وطنية هدفه خدمة المواطن وتحسين حياته. السياسات العامة تصاغ بالتحليل لا بالشعارات، والترتيبات الإقليمية تبنى على المصالح لا على الأوهام، والتعليم يربط بالاقتصاد والاقتصاد بالتقنية والتقنية برؤية مستقبلية واضحة. هذا التكامل جعل السعودية تقفز في سنوات قليلة قفزات كانت دول مؤدلجة تحتاج عقودا لتحقيق عشرها.
والأهم أن السعودية قدمت نموذجا جديدا في العالم العربي: الدولة غير المؤدلجة التي تملك مشروعا. فهي ليست دولة عقائدية على النمط القديم، وليست دولة تكنوقراطية باردة بلا روح، بل دولة لديها رؤية وهوية وحوكمة واقتصاد وإرادة سياسية متماسكة. وهذا النوع من الدول هو ما يمكن التعويل عليه في بناء مستقبل عربي مختلف.
قد يعترض بأن النموذج السعودي استفاد من ميزة الموارد النفطية الهائلة وهذا صحيح جزئيا. لكن التاريخ يثبت أن وفرة الموارد وحدها لا تصنع نجاحا كما تشهد حالات كثيرة من «لعنة الموارد». الفارق الحقيقي كان في كيفية إدارة تلك الموارد ضمن نموذج سياسي متماسك.
الدرس الذي تكشفه المقارنة بين التجارب الفاشلة وتجارب النجاح واضح: لا يمكن لدولة أن تنجح إذا بدأت من نظريات الآخرين، أو حاولت أن تلبس شعبها ثوبا فكريا لا يناسبه. الدولة الحقيقية تبنى من الداخل من ثقافة المجتمع وفطرته وقيمه، ثم تطور نفسها بذكاء لتلحق بالعصر. وما لم تحل المعضلة السياسية فلن تنفع مدارس ولا جامعات ولا خطط اقتصادية. أما حين يكون الأساس السياسي صحيحا فإن التعليم يثمر والاقتصاد يكبر والمؤسسات تتقوى وتتحول الدولة من كيان هش إلى مشروع حضاري مستقر.
هذا ما غاب عن دول كثيرة وهذا ما تمكنت السعودية من تحقيقه، لتصبح نموذجا عربيا حديثا قائما على الانسجام بين الهوية والفكرة والدولة. لكن يبقى السؤال: هل يمكن تعميم هذا النموذج؟ أم أن لكل مجتمع عربي خصوصياته التي تتطلب نموذجا فريدا؟