عبدالله علي بانخر

صراع السكون: بين صمت الحكمة وصخب الجنون

الأحد - 16 نوفمبر 2025

Sun - 16 Nov 2025



في عصر «الضجيج العبثي»، حيث تتسابق الشاشات والأصوات لتخطف آخر ذرات انتباهنا، أصبح الصمت عملة نادرة وأشدها أهمية. لم يعد الصمت مجرد غياب للصوت؛ بل تحول إلى ساحة معركة نفسية وإدراكية. فهل هو ملجأ أم تخلٍ؟ في هذا العالم المزدحم، لا يمثل الصمت حالة واحدة، بل ينقسم إلى ضفتين متناقضتين: صمت يمنح القوة والتركيز (صمت الحكمة)، وآخر يغرق الروح في العجز والتآكل (صخب الجنون). فكيف نميز بين صوت الحكمة الذي يهمس في السكون، وصمت الاستسلام الذي يخدرنا؟ فإذا كان الصخب تفضحه عيون، فإن الصمت يفضحه جنون.

الصمت لغة وعلميا وعمليا:

لفهم دلالات الصمت في حياة الفرد، يجب أولا تحديد ماهيته على مستويات معرفية مختلفة:

التعريف اللغوي والاصطلاحي

لغة، الصمت هو السكوت، والفعل «صمت يصمت صمتا» يعني سكت (الجوهري، الصحاح تاج اللغة، 2014). ويشير علماء اللغة إلى أن الصمت أعم من السكوت؛ حيث يطلق على من لا يقوى على النطق، بينما السكوت هو ترك الكلام ممن يقدر عليه (ابن دريد الأزدي، جمهرة اللغة، 2014).

اصطلاحا، عرف الصمت بأنه «الإمساك عن قول الباطل دون الحق» (الكفوي، الكليات، 2014)، أو هو الإمساك عن الكلام الذي لا خير فيه، مما يجعله فعلا إراديا مرتبطا بالفضيلة والحكمة (ابن رجب، جامع العلوم والحكم، 2014).

التعريف في علم النفس والسلوك

في علم النفس، يتجاوز الصمت كونه غيابا للصوت ليصبح شكلا من أشكال التواصل غير اللفظي له دلالات متعددة (بلير، 2023):

- إيجابيا: قد يدل الصمت على الراحة، التركيز، الإنصات الفعال، أو التقدير والاحترام للمتحدث.

- سلبيا: قد يفسر بأنه انسحاب عاطفي، أو عدم القدرة على التعبير، أو محاولة لفرض العقوبة (الابتزاز العاطفي)، وفي حالات مرضية، قد يكون عرضا لاضطرابات مثل القلق والرهاب الاجتماعي (العربي، 2023).

أولا: الصمت الإيجابي (حكمة الصمت)

الصمت الإيجابي هو اختيار واع ومقصود، يمارس كأداة بناءة لإدارة الذات والعلاقات، وهو يمثل قمة القوة الداخلية والسيطرة على الذات (السعدية، 2022). هذا النوع يمنح الفرد الوضوح في خضم الفوضى:

- صمت النجاة وحفظ اللسان: هو الامتناع عن الكلام الذي يؤدي إلى الإثم أو الوقوع في اللغو والباطل.

دليل من السنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». وفي حديث آخر «من صمت نجا» (الترمذي، 2025). هذا الصمت هو طريق السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة.

- صمت التأمل ودرجات الإنصات: هذا الصمت هو ما نلجأ إليه لتصفية الذهن، وكذلك عند سماع الحق والقرآن.

دليل من القرآن: قال تعالى «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون». (الآية 204 من سورة الأعراف).

- مراتب السكون الإدراكي: لا يقتصر الإنصات على السكوت الجسدي فقط، بل يتدرج إلى مستويات أعمق من الوعي والتركيز. تبدأ هذه المراتب من الاستماع (مجرد إدراك الصوت)، إلى الإنصات (السكون الكامل مع تركيز العقل على المتحدث)، وصولا إلى الإصغاء (وهو الميل إلى المتحدث بالقلب والسمع، وإعطاؤه كامل الاهتمام). هذا التدرج يؤكد أن الصمت الإيجابي هو عملية عقلية نشطة، وليست سلبية.

- صمت الحكمة والتسامي: هو الامتناع المدروس عن الرد أو الدخول في نقاشات عقيمة، اختيارا للقوة.

ثانيا: الصمت السلبي (صخب الجنون)

الصمت السلبي هو امتناع غير واع أو نتيجة لشعور داخلي بالضعف أو الخوف، ويكون له تأثير مدمر على النفس والعلاقات، فهو يخلق الفراغ المليء بالشحنات السلبية (السعدية، 2022).

- صمت التغافل عن الباطل (السكوت غير الحكيم): هو الصمت الذي يكون فيه الكلام واجبا أو خيرا، والسكوت عنه يضر. يشمل السكوت في موضع يجب فيه «قول الخير» (مثل النصيحة الواجبة أو إحقاق حق) أو الانشغال بالسكوت عن اللغو. هذا السكوت مذموم لأنه ترك للواجب أو انشغال بما لا يعني.

دليل من السنة: الحديث النبوي يذم الانشغال بالكلام الذي «لا يعني»، مما يدل على أن الصمت السلبي يكون في السكوت في مواضع تعنينا ويجب فيها التعبير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (الترمذي، 2025).

- صمت العجز والاستسلام: هو الصمت الذي ينبع من الشعور بالضعف أو العجز عن المواجهة أو التعبير عن الرفض. هذا الهروب إلى الداخل قد يؤدي إلى الاحتراق النفسي وتراكم المشاعر المكبوتة التي تنهك صحة الفرد (عباس، 2022).

- صمت التجنب والإساءة العاطفية: هو استخدام الصمت كأداة للعقاب أو التعبير عن الاستياء دون وضوح، ويعد شكلا من أشكال التلاعب العاطفي أو التجاهل الذي يدمر التواصل ويخلق مسافات سامة في العلاقات (العربي، 2023).

- صمت عدم القدرة على التعبير: الصمت الناجم عن عدم امتلاك المهارة اللفظية للتعبير عن المشاعر المعقدة أو الضيق، فيصبح حاجزا يخفي الاضطراب الداخلي ويزيد من العزلة.

مفتاح السكون الواعي

في الختام، يتضح أن الصمت ليس وجهة نظر واحدة، بل هو ميدان لا ينتهي من صراع السكون الداخلي. لقد تجاوزنا فهم الصمت على أنه مجرد غياب للصوت لنكتشف أنه قد يكون مفتاح النجاة، كما أوضحت السنة النبوية، وقد يكون في المقابل بداية التآكل والجنون، عندما يتحول إلى هروب سلبي أو كتمان لما يجب أن يقال.

إن مسؤوليتنا الكبرى في مواجهة «الضجيج العبثي» هي أن نتقن فن التمييز: أن نختار صمت التأمل والإنصات الذي يمنحنا الحكمة، وأن نكسر صمت العجز والتجنب الذي يتركنا فريسة للضعف. الصمت الإيجابي هو في جوهره ممارسة للقوة الداخلية؛ قوة الاختيار الواعي للكلمة أو للسكوت.

فلنجعل صمتنا دليلا على حكمة محتواه، لا دليلا على عجز لا يعرف منتهاه.