ليلى علي مجرشي

المحتوى السريع... وفقدان العمق

الأحد - 16 نوفمبر 2025

Sun - 16 Nov 2025



نستيقظ كل صباح على شاشات تغرقنا بمقاطع لا تتجاوز ثواني، وتغريدات قصيرة، وعناوين تلمع ثم تختفي. نمر بإصبعنا على مئات القطع من المحتوى خلال يوم واحد، لكن لو سألنا أنفسنا عما بقي في أذهاننا فعلا، وعن فكرة واحدة استقرت في وعينا وغيرت نظرتنا لشيء ما، سنكتشف أن الحصيلة أقل بكثير مما نتصور.

هذه المفارقة هي المدخل لفهم كيف تغير شكل الوعي في زمن المنصات. فالخوارزميات لا تصمم لتطوير معرفتنا، بل لتوجيه انتباهنا نحو الأسرع تفاعلا، والأكثر إثارة، والأقرب لمزاج اللحظة. وهكذا يتحول المحتوى من مساحة للتفكير إلى مساحة للدهشة السريعة، من رسالة تحمل فكرة إلى لقطة تحمل انطباعا. ولا تلبث هذه اللقطة أن تختفي بمجرد تمرير الإصبع إلى الأسفل.

ومع أن المنصات تفرض هذا الإيقاع، فإن الجمهور أيضا يلعب دورا واضحا في ترسيخه. فالرغبة في الوصول إلى «الخلاصة» دون المرور بالطريق، والبحث عن المتعة السريعة بدل المعنى، يجعلان المحتوى العميق يبدو أثقل مما ينبغي، والمحتوى القصير يبدو أسهل مما يجب. وهكذا يعاد تشكيل الذوق العام بطريقة تفضل السرعة على الفهم، والانطباع على التحليل.

هذا التحول لم يؤثر على ذائقة الجمهور فقط، لكن امتد إلى طبيعة صناع المحتوى أنفسهم. فقد ارتفعت مكانة الشخصيات التي تجيد إثارة الانتباه الفوري، وتراجع حضور الأصوات التي تحتاج وقتا لتشرح وتفسر وتحاجج. ومع ذلك، لا يعود السبب إلى ضعف هذه الأصوات بقدر ما يعود إلى تغير قواعد اللعبة: في زمن السرعة، لا يكفي أن تكون الفكرة جيدة، بل يجب أيضا أن تكون قابلة للاستهلاك السريع.

ومع اتساع هذا النمط، تتشكل ملامح وعي جديد يعتمد على أجزاء مبتورة من الحقيقة. فالمقاطع المختصرة، مهما كانت جذابة، نادرا ما تعطي صورة كاملة؛ إنها تظهر زاوية وتخفي زوايا أخرى، وتقدم حكما قبل أن تعرض السياق، وتستدعي الانفعال قبل أن تمنح فرصة للفهم. وهكذا تتكون مواقف تجاه قضايا كبرى استنادا إلى «الجزء المرئي» من الحقيقة، بينما يغيب الجزء الأعمق في طيات ما لم يلتقط بالتصوير.

ومع ذلك، فإن اختصار المحتوى لا يعني بالضرورة اختصار الفكرة. فبعض صناع المحتوى استطاعوا تقديم عمق حقيقي في دقيقة واحدة، لأنهم بدأوا من الفكرة لا من الإيقاع. لكن هذا النوع يظل أقل حضورا، لأنه يحتاج جهدا مضاعفا في الصياغة، وتفكيرا أطول في البناء، ووعيا أكبر بأن المعنى ينبغي أن يكون واضحا حتى في أقصر اللحظات.

هنا يعود الدور إلى الإعلام والمؤسسات المعرفية، التي تقف بين إغراء مجاراة السوق وخطورة التفريط في رسالتها. فالمطلوب ليس منافسة صناع الضجيج، بل إنتاج محتوى قادر على الجمع بين الاختصار والمعنى، بين الجاذبية والعمق، دون أن يتخلى عن مسؤوليته في شرح ما يحدث، وكشف خلفياته، وتقديم صورة متكاملة لا تختزل في مشهد واحد أو تعليق عابر.

وفي الجهة المقابلة، يحمل الفرد مسؤولية لا تقل أهمية. فاختيار ما نقرأ وما نشاهد، وكيف نستخدم وقتنا أمام الشاشات، وما إذا كنا نبحث عن فكرة تضاف إلينا أم مجرد لحظة تسلية، كلها خيارات تصنع وعيا جديدا. الوعي لا ينبني تلقائيا؛ إنه يتشكل من تكرار ما نسمح له بالدخول إلى عقولنا، ومن نوع المحتوى الذي نعود إليه مرة بعد أخرى.

وهنا تحديدا، يتأثر مستقبل المجتمع الثقافي. فالأفكار الكبيرة تحتاج إلى جمهور قادر على الصبر المعرفي، وإلى بيئة تقدر السؤال الطويل كما تقدر الإجابة السريعة. وكلما تراجع هذا الصبر، تراجعت قدرتنا على التفريق بين المعلومة والضجيج، وبين الرأي المبني على سياق والرأي الذي صنع ليحصد تفاعلا سريعا.

ومع أن المشهد يبدو متجها نحو المزيد من السرعة، يبقى العمق خيارا متاحا. والأدوات الجديدة ليست عائقا أمام التفكير، بل قد تكون فرصة لإعادة صياغته. فالمساحة الرقمية ليست المشكلة؛ المشكلة في كيفية استخدامها. ويبقى السؤال مفتوحا أمامنا: ما نوع الوعي الذي نريد أن يميز مجتمعا يعيش وسط هذا الطوفان من المحتوى؟ وكيف يمكن للمؤسسات والأفراد أن يطوروا لغة جديدة تجمع بين سرعة العصر وعمق المعنى؟

وهل يمكن أن نربي أنفسنا، من جديد، على قيمة التمهل في زمن يرفض الانتظار؟

هذه الأسئلة ليست نهاية للنقاش بل بداية لتساؤلات شتى.