سلّات من الصبر والذاكرة… أم عبدالله تضع عالمها بين يديها داخل "بنان"
الجمعة - 14 نوفمبر 2025
Fri - 14 Nov 2025
وسط الحركة المتواصلة وأصوات الزوار التي تتداخل كأنها خيط طويل لا ينقطع، يلمع ركن بسيط اختارت فيه أم عبدالله أن تضع عالمها الصغير بين يديها. كانت جالسة بهدوء داخل فعاليات الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية "بنان"، تحيط بها حزم الخوص اليابس الذي أعادته إلى الحياة بمجرد أن بدأ يلتف بين أصابعها. يقترب الناس من ركنها بفضول، لكن حضورها يفرض نوعًا من السكينة التي تجعل الجميع يتريث قبل طرح أي سؤال، كأن الحرفة نفسها تطلب بعض الاحترام قبل الاقتراب منها.
تبدو أم عبدالله كمن تربّى على هذا الفن منذ زمن بعيد. ترفع إحدى عيدان الخوص، تبللها قليلًا، ثم تدمجها في القطعة التي بين يديها بمهارة هادئة لا تستعرض شيئًا، لكنها تقول الكثير، وعندما سألناها كيف بدأت، توقفت للحظة قصيرة، ثم قالت بصوت منخفض "لي 15 سنة أشتغل فيها... أمي علمتني يوم كنت صغيرة". وكأن ذكر الأم أعادها إلى ذلك المجلس القديم الذي يجتمع فيه النساء حول الخوص، تبدأ الواحدة منهن بطرف بسيط، ثم تتحول الحلقة الصغيرة إلى سلّة كاملة تحمل رائحة البيوت الأولى.
عملية النسج التي تقوم بها تبدو بسيطة من بعيد، لكنها في الحقيقة تحتاج إلى قراءة دقيقة لكل خيط. تختار العيدان بعناية، تضع القصير مع الطويل، والناعم مع الأكثر صلابة، ثم تبدأ في بناء القاعدة التي تُشبه الأساس الأول لجدار طيني قديم. وما إن تكتمل الدائرة الأولى حتى يبدأ العمل الحقيقي: طبقات متعاقبة ترتفع ببطء، كل طبقة تثبّت التي قبلها، وكل حركة تضمن ألا ينهار الشكل لو أضيف إليه وزن أو استُخدم في التخزين.
تشرح أم عبدالله وهي لا تزال ممسكة بالقطعة التي تتشكل أمامنا أن إعداد الخوص وحده يحتاج وقتا، اختيار النوع المناسب، غسل العيدان، تجفيفها، ثم تطرية بعضها حتى تصبح قابلة للثني دون أن تتكسر. تقول: "الشغل ما يمشي بسرعة... بين الفرز والنسج والخياطة، بعض السلال تأخذ شهر ونص حتى تخلص".
وتضيف بابتسامة صغيرة وهي تشير بيدها إلى سلّة كبيرة بجانبها: "أكبر وحدة سويتها أخذت شهر ونص كامل... كل يوم شوية إلين اكتملت".
تبدو علاقتها بالخوص علاقة شخصية أكثر منها مهنية. تعامل العيدان كما يتعامل المرء مع مادة تعرف أسرارها جيدًا، لا تفرض قوتها دفعة واحدة، بل توزّعها بذكاء على طول الخيط حتى يبقى متماسكًا. وتحرص على إدخال ألوان طبيعية خفيفة، درجات الرمل
يستمر "بنان" في تقديم عشرات الحرف الأخرى من السعودية والعالم، حيث تمتزج الأصوات والمهارات والثقافات في مساحة واحدة، بينما تبقى الحرفيات مثل أم عبدالله شاهدات على الحضور الهادئ للحرفة التقليدية داخل هذا المشهد الكبير. فقد باتت مشاركتهن جزءًا مهمًا من تعريف الزوار بما تعنيه الحرفة حين ترتبط بالذاكرة والأسرة والمكان، وليس بالمنتج وحده.