زهران ممداني يقلب الطاولة على الجميع.. ويفوز
الخميس - 13 نوفمبر 2025
Thu - 13 Nov 2025
وفاز المرشح الديمقراطي الأمريكي المسلم زهران محمود كوامي ممداني بمقعد عمدة نيويورك، أكبر مدن الولايات المتحدة وإحدى أكبر المدن في العالم أو أهمها. ووجد العالم العربي والإسلامي والآسيوي والأفريقي وما وراءهم أنفسهم خائضين في تفاصيل هذه الانتخابات منذ فوزه المفاجئ في انتخابات منصب العمدة الابتدائية في يونيو من هذا العام وصولا حتى يوم الرابع من نوفمبر من عام 2025، فكيف ولماذا؟
لعل أبسط سبب أنه شخص مسلم، ونحن ننصر المسلم في أي مكان لا سيما لو كان في دولة غربية، ناهيك عن أكبر وأقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن لماذا انصب اهتمامنا على زهران وغابت عن أنظارنا المرشحة الديمقراطية المسلمة غزالة هاشمي التي فازت بمنصب نائبة حاكم فيرجينيا مثلا، فهي أيضا مسلمة، ناهيك عن أنها أول امرأة أو شخص مسلم يفوز بمنصب على مستوى الولايات، فحققت أوليتين في انتصارها في يوم فوز ممداني نفسه؟ بل فاز هذا العام 38 مسلما ومسلمة محققين أعلى نسبة في أي انتخابات سابقة، وترشح للانتخابات نحو 76 مسلما، وذلك في المجالس التشريعية ومجلس النواب وبرلمانات ولايات ومجالس إدارات مدارس ومؤسسات أخرى، وفقا لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية «كير».
لكن فوز ممداني كان له دلالات أخرى وأصداء أخرى، وقد تم تناولها في الصحافة الأمريكية والعربية بشكل مكثف منذ وما قبل فوزه بالعمودية. جزء منها أولياته التي كان منها هويته متعددة المستويات مثل؛ الإسلامية، الشيعية، الهندوسية، السنية، الهندية، الأفريقية، الديمقراطية الاشتراكية، الأمريكية، جيل الشباب، جيل المهاجرين، جيل حديثي التجنس، أمه، أبوه، وزوجته، كل هذا يضاف إليه مواقفه الصدامية مع كل أصحاب النفوذ في نيويورك والولايات المتحدة قاطبة، وعلى رأسهم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، ابن هذه المدينة وحيث صنع ثروته. كما يضاف إليه برنامجه الانتخابي الذي كسر به النمط التقليدي لأي حملة انتخابية سابقة في محتواه أو في أسلوب طرحه أو تكوين فريقه، الذي وصل إلى تسعين ألف متطوعة ومتطوع دون الاعتماد على أموال الناخبين، يصل إلى ناخبيه كل بلغته وهويته، فيطلق إعلانات بالأردية والعربية والإسبانية، من كل موقع في المدينة، شارع، قطار، صف سيارات أجرة، مطاعم وجبات سريعة، بقالات، يتحدث مع أطفال، كبار، يراقص مسنات ويغني مع شباب، بكل خفة ظل ومحتوى مركز، منفتحا على كل الأديان والمذاهب، وما زياراته لمعابد اليهود الحريديم أو الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية إلا مؤشر على ذلك، فاستطاع أن يكسب عددا جيدا من أصوات هذه الفئات ويحتاج إلى عمل المزيد بخصوصها بلا شك. وموقفه الصريح من الإبادة على غزة وتأييده للحق الفلسطيني في المقاومة والعيش الكريم، والذي هو موضوع يحرص أي مرشح جديد على تجنب الخوض فيه أو التصريح بأي موقف إزاءه حين لا يصف فيه بجانب الكيان الصهيوني طالما كان في مرحلة انتخابية، وهو ما لم يلتزم به زهران. وهو موقف عرف به من قبل دخوله هذه الانتخابات حين كان طالبا ومن ثم نائبا في مجلس المدينة.
كثيرة هي المثيرات في قصة ممداني وكيف صنع تاريخا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية وللمهاجرين فيها وللإسلام وصورته أيضا. وقصة طفولته وتنقله بين أوغندا وكيب تاون في جنوب إفريقيا ونيويورك، أو قصة نشأته في أسرة علمية أكاديمية فنية إبداعية وناشطة سياسيا وفكريا، لأبوين هنديين خريجي هارفارد أحدهما مسلم شيعي وثانيهما هندوسية بجنسيات متراكبة، هندية/أوغندية/أمريكية، وبيت يعلو فوق الفروقات الطائفية أو الدينية أو الإثنية، فخور بكل مكون من ثقافته ولا يخجل من أي منها بما فيه تناوله الطعام بيده، وكأن هناك فرقا بين تناول الأرز أو الهامبرغر باليد. كلها مثيرات للجدال والحوار واتخاذ المواقف وأيضا الانتصار والشيطنة.
تصل بنا هذه المفارقات إلى برنامجه الانتخابي الذي يحمل الأمل للفئات الكادحة في المجتمع بجعل نيويورك مدينة قابلة للعيش ولتحمل تكاليفها بجعلها أقل تكلفة وأسهل عيشا، بتجميد رفع أسعار إيجارات السكن، حضانات الأطفال المجانية، الباصات السريعة والمجانية، رفع درجة الأمان في المدينة، تعويض ذلك برفع الضرائب على 1% من سكان نيويورك الذين يعدون من المليونيرات والملياديرات لتتوازى مع نيو جرسي، وغيرها من الإجراءات التي تعهدها ممداني في برنامجه الانتخابي المعروض على الصفحة البرتقالية بالأزرق حاملة ألوان خريطة المترو الجاذبة بصريا، من أعمال زوجته راما دواجي. مع حملة مثالية تجاه محاربة الفساد واستغلال أصحاب العقار، والتلوث البيئي، وأمن الأطفال.
فأدت هذه المعطيات كلها إلى حملة استنفار غير مسبوقة لمحاربة تولي زهران ممداني منصب العمودية ترأسها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بنفسه، وكبار رجال الأعمال وأصحاب الثروات الضخمة بمن فيهم أغنى رجل في العالم إلون ماسك، وقائمة من سكان نيويورك المليارديرية لإسقاطه بكل الوسائل، سواء عن طريق دعم منافسه، حاكم نيويورك السابق المحكوم عليه بالفساد وبالتحرش الجنسي بـ 13 امرأة، أندرو كومو، أو عن طريق تشويه ممداني سواء في خطابه أو برنامجه أو هويته الإسلامية أو موقفه من الكيان الصهيوني، بإرسال سيل جارف من الرسائل البريدية إلى البيوت أو مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام التي يملكون غالبيتها العظمى. وقد صفت كبار الصحف الأمريكية إلى جانب هذا التوجه المكلل بالإسلاموفوبيا وربط ممداني بتفجيرات 9/11 بنيويورك، والقاعدة وداعش وحماس وكل ما يمكن أن يسقطه انتخابيا.
ولم يكن هذا فقط على الجانب الأمريكي بل والهندي كذلك، حيث إن حزب رئيس وزراء الهند ناريندا مودي اليميني المتطرف نصب نفسه معاديا لممداني منذ اللحظة الأولى التي ذكر فيها أن أصوله تعود إلى مسلمي كوجرات بالهند، وأنه تمت إبادة غالبيتهم من قبل حكومة مودي الهندوسية المتطرفة، على الرغم من أن أمه نفسها هندوسية، إلا أن الهنود قد أخذوا منها موقفا معاديا منذ تزوجت مسلما كاسرة بذلك كثيرا من التقاليد. كما عاداه مجموعة من المسلمين السنة ممن يقفون منه موقفا طائفيا يعتبرون أن شيعيته تعني اصطفافه مع إيران وحزب الله، وفئة أخرى ترى في برنامجه الانتخابي المنفتح على التنوعات الجنسانية في نيويورك من أمثال المثليين والمتحولين جنسيا والذين يرى أن لهم الحق في العيش الكريم، في مخالفة للبرنامج الجمهوري الأمريكي لا سيما الخاص بترامب، مهددا لمعاييرهم الأخلاقية والدينية، مسقطين عليه بالضرورة تصوراتهم واعتقاداتهم في محاولة تطهير للإسلام.
فكل هذه الفئات وجدت في ممداني فريسة قابلة للانتقاد والمهاجمة بل والافتراس، لكن النتيجة المذهلة كانت في فوزه الساحق على منافسيه وقدرته على تجييش أكثر من مليون ناخب للتصويت له في سابقة منذ عام 1969، ليفوز بنسبة 50.4% بفارق عشر نقاط عن كومو وأكثر بكثير عن منافسه الجمهوري كورتيس سيلوا.
يمكن القول إن زهران ممداني قدم عرضا فريدا في كيفية بناء برنامج انتخابي قائم على احتياجات الناس بدأه منذ عدة أعوام منذ كان طالبا في الصفوف الإعدادية. وهو في الثانية عشرة من عمره خاض انتخابات رئاسية وهمية في مدرسته عن حزب اسمه «المستقل» فاز فيها بفارق صوت واحد، كما تقول زميلته ومنافسته في تلك الانتخابات سيرينا كيريجان Serena Kerrigan التي تستذكر تلك الأيام من صور كتاب المدرسة السنوي Bronx High School لعام 2004. حيث تعلن أن زهران ليس حديثا على هذه الأجواء، وكان خطيبا مفوها منذ سن صغيرة واستطاع أن يطور هذه المهارات مع محتوى عميق يطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والحق في العيش الكريم، رآها نماذج أمامه في نشاط والده البروفسور محمود ممداني في مجال النقد السياسي المعاصر، محافظا على نزاهته العلمية في مجال الدراسات الأفريقية حين واجه عيدي أمين أوغندا، ثم جنوب أفريقيا حيث الفصل العنصري الأكاديمي كان لا يزال قائما، من خلال كتبه ومحاضراته في جامعات العالم وأمريكا وآخرها ومنذ عام 1999 في جامعة كولومبيا. ورأى هذه المفاهيم ممثلة أمامه أيضا في نشاط أمه ميرا نايير، المخرجة السينمائية والمبدعة الفنية في مسيرتها التي ابتدأت من السبعينات تتناول فيها قضايا حقوقية شائكة خاصة بالمرأة والمجتمع، الحاصلة على عدد من الجوائز السينمائية المهمة. لم تكن هذه النماذج عادية ولا تقليدية، فأنتجت ابنا تشبع بكل مكونات هذا الخليط الثقافي والفكري، ناهيك عن أن خلفية والديه الدينية المختلفة لم تجعل من الدين عنصر تفرقة قدر ما كان بنفسه عنصر اعتزاز وإثراء.
فمهاجموه احتاروا في أمره، حيث إن كل نقطة هجوم ضده كانت مكسبا له ومنقلبا عليهم، خسروا على إثرها ما أنفقوا من ملايين. ولعل الكيان الصهيوني كان الخاسر الأكبر الذي فقد مدينة أكبر تجمع يهودي في الغرب بعد فلسطين المحتلة إلى رجل مسلم معادٍ لها بكل صراحة ومهددٍ لبنيامين نتنياهو لو وطأت قدماه نيويورك بحبسه تطبيقا لقرارات محكمة الجنايات الدولية.
تكملة في نقاط الاختلاف والتميز، لم تمض على فوز زهران ممداني التاريخي 12 ساعة حلى أعلن عن تكوين فريق حكومته الانتقالية المكونة بكاملها من النساء الكفء.
ما ينبغي أن نعيه هو أن فوز ممداني بكل ما يحمله فوزه من دلالات انتصار للإرادة الشعبية والبسيطة والعادلة مقابل السلطة والمال، انتصار مفاهيم العلو على الطبقية والفئوية والمذهبية إلى المساواة في الحق في العيش الكريم مهما كانت الخلفية الدينية أو الإثنية أو السياسية أو الجنسانية. ولذلك عندما ننتصر له ينبغي أن نخرج معادلة الطائفية والفئوية من الحساب، ويمكننا التمسك بما جعله هويته التي يعتز بها، الإسلام أحدها، فلماذا نجزئه ونمذهبه في بحثنا عما يفرق ولا يجمع؟ إن في هذا التركيز على فئويته المذهبية وموقفه من الاختيار الجنساني لشيطنته يحمل الكثير من التضييع لما يمكن الاستثمار فيه معنويا وسياسيا كمشترك يمكن البناء عليه. الجهل بتاريخ عائلته وموقفها الفكري وتنوعها الديني يدفع باتجاه هذه الشيطنة المضيعة للجهد والحبر والفرص السياسية. ولعل زواجه من امرأة مبدعة حرة في مواقفها السياسية والاجتماعية ومسلمة سنية، عربية/سورية/أمريكية، لمؤشر على ما تعنيه له هذه الهويات. تعني شيئا واحدا.. إنسانا يتفق مع مواقفه الفكرية والإنسانية.
ويطيب لي أن أختم بما سطره «علي المدن» في مقالته (ممداني والتشيع السياسي)، التي يرد فيها على مواطنيه العراقيين من الشيعة الذين تحزبوا وتحمسوا لممداني الابن كانتصار شيعي رمزي على الغرب، ليستعرض أمامهم الخلفية التربوية لزهران والبيئة التي نشأ فيها والتي تشكلت من أب مفكر وأم مبدعة. ثم استعرض عددا من الطروحات التي عرف بها محمود ممداني، والتي يرد فيها على الطائفية والفئوية ويربطها بالاستعمار كجزء من مشروعه الطويل في تفكيك الدولة القومية الحديثة وآلياتها في صناعة الأقليات الدائمة، معتبرا أن القومية والاستعمار ولدا معا ولأجل بعضهما بعضا. فالأقليات هي صناعة استعمارية قومية تحافظ على أغلبية متخيلة باسم الوطن أو الأمة. ففكره قائم على رفض الفصل العنصري والاستعمار بأشكاله المختلفة، والتسامح الليبرالي الذي يقوم على مبدأ «التعايش مع الأقليات بشرط ألا يهددوا الأغلبية». وعليه، لا يمكن أن يفهم زهران ممداني - السياسي الأميركي الشاب ذو الموقف النقدي من إسرائيل والاستعمار والعنصرية - إلا بوصفه امتدادا حيويا لفكر أبيه؛ فكما يدعو محمود ممداني إلى «دولة بلا أمة»، يعمل زهران داخل النظام الأميركي على نقد البنية العنصرية والهيمنة البيضاء، وعلى توسيع معنى المواطنة بما يتجاوز الانتماءات العرقية والدينية. (انتهى)
هكذا يمكن أن نفهم ممداني ودلالات فوزه وما تعنيه لنا أو لا تعنيه. تعني بلا شك اعتزازا بالانتماءات العرقية والدينية لكن دون أن تنال من المساواة الحقة في العيش الكريم.
ولعل ما أمام ممداني شيئان.. أن ينفذ برنامجه الانتخابي بكل ما يحمله من تحديات.. وأن يحافظ على حياته، والحافظ هو الله.