بين فلسطين والسودان: الإنسان هو الحاضر الغائب
الأربعاء - 12 نوفمبر 2025
Wed - 12 Nov 2025
يجسد التعاطي العربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية انتقالا من معيار الإنسان إلى معيار الهوية؛ فالقضية التي ولدت كحق شعب في التحرر، ابتلعتها سرديات التعبئة والرموز، فتوارى الألم خلف قداسة الخطاب الديني والقومي، وغابت العدالة كقيمة كونية أمام اصطفافات الهوى.
في المقابل، يعيش السودان مأساة إنسانية طاحنة تتجاوز في مداها حجم الكارثة في غزة، غير أن هذه المأساة لا تجد طريقها بقوة إلى الوعي الجمعي أو الشاشات. هناك تختبر إنسانية العالم بعيدا عن الشعارات؛ ملايين النازحين يسيرون نحو المجهول، والمدن تقصف بلا كاميرات، والمجاعة تقترب من اجتياح الأقاليم، فيما تتعامل المنظمات الدولية والإعلام الغربي مع الكارثة ببرود لافت.
أما الإعلام العربي الغارق في ضجيج الخطابات، فلا يرى في السودان مادة تشعل التفاعل أو تكسبه رمزية، فتموت القصة قبل أن تروى. هنا لا عدو يستنفر ضده الجمهور، ولا أيديولوجيا تعبئ المشاعر، لذلك يسود الصمت؛ صمت أخطر من الحرب نفسها، لأنه يمحو الضحايا من الذاكرة ومن سجلات التاريخ معا.
وعلى الضفة الأخرى من هذا الصمت، تتجلى مفارقة أشد تعقيدا؛ إذ أصبحت قضية فلسطين، بفضل التقاء الإعلام بالسياسة، مغسلة أخلاقية يدخلها الفاسد والمجرم والمتاجر بالدماء ليخرج بطلا بمجرد الدفاع عنها، ومنصة جاهزة تبرر فيها الأنظمة إخفاقها في التنمية، والجماعات لهثها خلف السلطة وأحلام الخلافة والإمامة. لذلك تستدعى القضية عند اشتداد الأزمات لتغذية الخطاب التعبوي وتحصين النفوذ، لا لنصرة الإنسان الواقع تحت الاحتلال.
ومن هنا يتكشف الدور الأخطر للإعلام الذي لم يعد مرآة للواقع بل أداة لصناعته. فالكاميرا لا تكتفي برصد المأساة، بل ترسم الخطط والاتجاهات، وتضخم قضايا وتهمش أخرى، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي وفقا لما تمليه السياسة ومصالح الممولين. هكذا تشترك السياسة والإعلام في إنتاج وعي انتقائي، تقاس فيه العدالة بعدد المشاهدات لا بعمق الألم، ويمحى فيه الإنسان متى غابت الكاميرا عن المشهد.
ومع هذا التواطؤ الشعبوي، ينتج جمهور عاطفي دوغمائي يرى في الاختلاف تهديدا وفي النقد خيانة. يتحول الرأي العام إلى أداة ضغط على كل صوت يحاول مساءلة السردية السائدة أو تفكيك الخطاب العاطفي، ويمارس ما يمكن تسميته بالقتل المعنوي ضد المختلفين؛ إذ يشيطن الناقد، ويقصى عن أغلب المنابر الإعلامية والدينية والاجتماعية.
والمفارقة الكبرى هنا تتجلى بين الموقفين العربي والغربي؛ فالعربي والمسلم سجنا المأساة في قوالب الأيديولوجيا، بينما حولها الغربي إلى مادة استهلاكية تحكمها المصالح السياسية داخليا وخارجيا - عند اليمين أو اليسار - كلاهما صاغ الحقيقة من وراء الشاشة، ونسي الإنسان الذي يعيش مأساته خارج عدسة العالم، سواء أكان ذلك بمدينة الفاشر أم في غزة.
ولعل المخرج من هذا المأزق يبدأ بإعادة الاعتبار للإنسان؛ فالحاجة اليوم ليست إلى المزايدات ولا إلى بيانات موسمية، بل إلى تحرير مفهوم العدالة من هيمنة الأيديولوجيا الإعلامية والسياسية معا. فحين يعاد الإنسان إلى مركز الأولوية، ويقاس الظلم بآثاره لا بانتمائه، تستعيد القضايا معناها الأول: إنصاف الإنسان لكونه إنسانا، لا لصفته أو موقعه. وطريقة الإنصاف هنا ليست في المتاجرة بآلام الإنسان، بل في سرعة إغاثته وتقديم المساعدات الإنسانية له من جهة، والبحث عن حلول سياسية واقعية من جهة أخرى، بعيدا عن الشعارات التي تطيل أزماته وتضاعف معاناته.
في المقابل، يعيش السودان مأساة إنسانية طاحنة تتجاوز في مداها حجم الكارثة في غزة، غير أن هذه المأساة لا تجد طريقها بقوة إلى الوعي الجمعي أو الشاشات. هناك تختبر إنسانية العالم بعيدا عن الشعارات؛ ملايين النازحين يسيرون نحو المجهول، والمدن تقصف بلا كاميرات، والمجاعة تقترب من اجتياح الأقاليم، فيما تتعامل المنظمات الدولية والإعلام الغربي مع الكارثة ببرود لافت.
أما الإعلام العربي الغارق في ضجيج الخطابات، فلا يرى في السودان مادة تشعل التفاعل أو تكسبه رمزية، فتموت القصة قبل أن تروى. هنا لا عدو يستنفر ضده الجمهور، ولا أيديولوجيا تعبئ المشاعر، لذلك يسود الصمت؛ صمت أخطر من الحرب نفسها، لأنه يمحو الضحايا من الذاكرة ومن سجلات التاريخ معا.
وعلى الضفة الأخرى من هذا الصمت، تتجلى مفارقة أشد تعقيدا؛ إذ أصبحت قضية فلسطين، بفضل التقاء الإعلام بالسياسة، مغسلة أخلاقية يدخلها الفاسد والمجرم والمتاجر بالدماء ليخرج بطلا بمجرد الدفاع عنها، ومنصة جاهزة تبرر فيها الأنظمة إخفاقها في التنمية، والجماعات لهثها خلف السلطة وأحلام الخلافة والإمامة. لذلك تستدعى القضية عند اشتداد الأزمات لتغذية الخطاب التعبوي وتحصين النفوذ، لا لنصرة الإنسان الواقع تحت الاحتلال.
ومن هنا يتكشف الدور الأخطر للإعلام الذي لم يعد مرآة للواقع بل أداة لصناعته. فالكاميرا لا تكتفي برصد المأساة، بل ترسم الخطط والاتجاهات، وتضخم قضايا وتهمش أخرى، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي وفقا لما تمليه السياسة ومصالح الممولين. هكذا تشترك السياسة والإعلام في إنتاج وعي انتقائي، تقاس فيه العدالة بعدد المشاهدات لا بعمق الألم، ويمحى فيه الإنسان متى غابت الكاميرا عن المشهد.
ومع هذا التواطؤ الشعبوي، ينتج جمهور عاطفي دوغمائي يرى في الاختلاف تهديدا وفي النقد خيانة. يتحول الرأي العام إلى أداة ضغط على كل صوت يحاول مساءلة السردية السائدة أو تفكيك الخطاب العاطفي، ويمارس ما يمكن تسميته بالقتل المعنوي ضد المختلفين؛ إذ يشيطن الناقد، ويقصى عن أغلب المنابر الإعلامية والدينية والاجتماعية.
والمفارقة الكبرى هنا تتجلى بين الموقفين العربي والغربي؛ فالعربي والمسلم سجنا المأساة في قوالب الأيديولوجيا، بينما حولها الغربي إلى مادة استهلاكية تحكمها المصالح السياسية داخليا وخارجيا - عند اليمين أو اليسار - كلاهما صاغ الحقيقة من وراء الشاشة، ونسي الإنسان الذي يعيش مأساته خارج عدسة العالم، سواء أكان ذلك بمدينة الفاشر أم في غزة.
ولعل المخرج من هذا المأزق يبدأ بإعادة الاعتبار للإنسان؛ فالحاجة اليوم ليست إلى المزايدات ولا إلى بيانات موسمية، بل إلى تحرير مفهوم العدالة من هيمنة الأيديولوجيا الإعلامية والسياسية معا. فحين يعاد الإنسان إلى مركز الأولوية، ويقاس الظلم بآثاره لا بانتمائه، تستعيد القضايا معناها الأول: إنصاف الإنسان لكونه إنسانا، لا لصفته أو موقعه. وطريقة الإنصاف هنا ليست في المتاجرة بآلام الإنسان، بل في سرعة إغاثته وتقديم المساعدات الإنسانية له من جهة، والبحث عن حلول سياسية واقعية من جهة أخرى، بعيدا عن الشعارات التي تطيل أزماته وتضاعف معاناته.