عيادتان وباب في باطنه العذاب!
الثلاثاء - 11 نوفمبر 2025
Tue - 11 Nov 2025
لما قال المريض: سألت الذكاء الاصطناعي، وقال لي عن أعراض المرض، تجهم وجه الطبيب وقال وهو يلوم مريضه بنبرة العارف بكل شيء:
- لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي، هذا اسمه غباء صناعي، وإلا قل لي من أي جامعة تخرج؟ وما هو تخصصه؟ وما هو آخر مؤتمر حضره؟ وهل تعب مثلنا حتى حصل على ما حصلنا عليه؟!
فسأله المريض بخبث بريء:
- ومن أي جامعة تخرجت يا دكتور؟
وليتني كنت حاضرا لحظتها لأقول للطبيب بكل هدوء وسخرية حانية: الذكاء الاصطناعي - يا عزيزي الطبيب - لا يتأخر عن موعده أبدا، ولا يعتذر بأن العيادة مزدحمة أو أن الكهرباء انقطعت أو أن الممرضة في إجازة! أو يعتذر في آخر لحظة بحجة جاءته سفرة مفاجئة!
الذكاء الاصطناعي لم يكتب يوما وصفة بخط يشبه حفر شوارع الأحياء، ولم يكن انتقائيا في الإجابة عن أسئلة المرضى، ولم يتهمه أحد بالكبر، ولم يقل لمريض «خلينا نجرب هذا الدواء ونشوف»، ولم ينس يوما اسم دواء أو مريض، ولم يكتب وصفة بخط يجعل الصيدلي يستعين بخبراء آثار لقراءتها! الذكاء الاصطناعي لم يتخرج من جامعة، ولم يقضِ ست سنوات في كلية الطب لكنه - رغم ذلك - يتحدث بالتفاصيل الدقيقة عن كل ما يسأل عنه، دون أن يتعالى على أحد أو يطالب الناس أن يسبقوا اسمه بحرف (الدال)، وإن لم يفعلوا اهتزت الثقة بينه وبينهم وبني سور له باب في باطنه في العذاب!
لقد صمم الذكاء الاصطناعي ليقدم المعرفة، لا ليقدس نفسه. يرجع في ثوان إلى عشرات الآلاف من الأبحاث الطبية، ومئات الموسوعات العلمية مفتوحة المصدر، ويشير - إن طلبت - إلى مراجعها بكل أدب وشفافية. يتحدث مع المريض بلا ملل، ولا يطلب من الممرضة أن تخرجه لأن «الوقت انتهى»، وليس له عيادتان في الوقت نفسه يوزع بينهما المرضى مثلما يوزع شيوخ الرقية الشرعية «أيام زمان» الصبر بين غرفة الانتظار والباب الخلفي!
هل رأيت الذكاء الاصطناعي يكتب لك علاجا قبل أن تشرح له المشكلة؟ بعض الأطباء يفعلون ذلك! هل سبق أن تحدثت إلى الذكاء الاصطناعي بينما يرفض الذكاء الاصطناعي الحديث إليك بحجة أنه طبيب وفاهم أحسن منك؟ بعض الأطباء تستجديهم حتى يشرح لك حالتك لكنه الملل الذي أصابه بالخرس، وعندما تلومه يقول لك «هذه الحالة التي أصابتك وتعتقد أنها مهمة كل يوم أشوف مثلها عشرات المرات» ليس ذنبي يا سيدي الطبيب أن هذه تخصصك، وقدرك أن ترى هذه الحالة يوميا ولكنه ذنبك إن لم تتعاطف مع المريض وتشرح له مرضه بالتفصيل وتعرفه خطوات العلاج وتتأكد أنه ليس لديه أسئلة أخرى! بالمناسبة؛ الذكاء الاصطناعي لا يمل من الأسئلة! بل الذكاء الاصطناعي يفعلها: يسمع، يشرح، يفكر، يقدر الاحتمالات... وكل ذلك بلا استعلاء ولا استعجال.
بل والأجمل، أنه لا يقلل من شأن طبيب آخر، ولا يغمز زملاءه من طرف الشاشة. بل دائما يقول «استشر طبيبك، لا تعتمد علي وحدي». كم هو في قمة التواضع!
إنه لا يدعي العصمة، ولا يعالج أحدا دون إشراف بشري، لكنه يهيئ المريض بالمعرفة والوعي، ويمنحه أدوات التفكير السليم قبل أن يدخل العيادة.
وفي النهاية إذا اجتمع مريض واع، وطبيب ماهر، وذكاء اصطناعي متواضع يخدمهما، فقد اجتمع ثلاثة أرباع العلاج، ولم يبق على الشفاء إلا توفيق الله.
Halemalbaarrak@