نقطة من أول السطر
السبت - 01 نوفمبر 2025
Sat - 01 Nov 2025
ينسب إلى قصي بن كلاب - جد النبي صلى الله عليه وسلم - قوله «أنا ابن العاصمين بني لؤي * بمكة منزلي وبها ربيت»؛ ووجدت في هذا البيت أصدق ما أستهل به مقالي الأول من «مكة المكرمة» ـ المقدسة الغراء - في صحيفة «مكة» - متعة الإبداع -؛ فأنا لست بحاجة لأن أعرف بنفسي في هذا الصرح، ولا أن أستمسك بحلق أبوابه، فهنا الجذور، وهنا الحرف الأول، وهنا تعزيز التأكيد على أن الانتماء الذي لا يتغير، هو انتماء الكلمة إلى الحق، وإلى الحقيقة، كذا فصل البيان.
هذا المقال ليس مجرد تحية افتتاحية - وإن كان ذلك واجبا - ولا بيانا أو إعلانا، بل استمرار لمسار واحد، وجواب جامع مانع للسؤال الذي أضعه دائما أمام نفسي، ونصب عيني، وهو هل نحن فعلا نبحث عن الحقيقة؟ أم نبحث عمن يجعلنا نشعر بأننا على حق؟ وهل نقرأ كلمات غيرنا لنفهمها، أم لنحاكمه عليها؟
كثير من القراء - وربما قليل - لا يطلبون رأيا بقدر ما يطلبون صوتا يؤكد ما يريدون سماعه؛ فإن وافقهم صاحب الصوت صفقوا له، وإن خالفهم رشقوه بتهم معلبة جاهزة، ومنها أنه متحيز، أو متلون، أو مأجور، أو - بلغة اليوم - «يبحث عن الترند»، وهكذا تتهاوى قيمة الكلمة بين حق يجب أن يقال، ورضا ينتظر من الجمهور، وإذا ما مال الكاتب إلى إرضاء الغالبية دون حق ضاع الحق، وإذا تشبث بالحق ضاع الرضا، وبين هذا وذاك سيضيع صوت الحقيقة، لأن الهم محصور بين تصفيق المؤيدين، وصفير الرافضين؛ والكلمة في أصلها ميثاق بين الكاتب وضميره، قبل أن تكون صلة بينه وبين من حوله؛ فإذا أضحت أسيرة لمزاج الآخرين فقدت قدسيتها، وتحولت من بوصلة إلى مرآة مجاملة، ومهما كان صوت الضمير خافتا، فإنه سيظل أصدق وأثبت من تزكيات الناس ومديحهم.
لا أريد لمقالي الافتتاحي في رحاب صحيفة «مكة»، وبين أهلي من قرائها الكرام، أن يقول أحدهم إنه وافقني فأحببته، أو خالفني فكرهته؛ بل أريده، ولكل ما سيأتي بعده، بابا للصلات والتعليقات والتعقيبات، وأن يقرأ كما تقرأ النصوص التي لا تبحث عن إعجاب، بل عن طريق التقدم، والمواكبة لكل ما يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويضيف ولا يقصي، ويقارب ولا يباعد، ويصلح ولا يفسد، ويطهر ولا يكدر، ويضيء ولا يطفئ أنوار الأمل في كل جميل في بلادنا المباركة، يسعى له ولي أمرنا المفدى، وولي عهده الموفق المسدد؛ اللذان ائتمنهما الله - سبحانه وتعالى - علينا، وأحبونا وأحببناهم، كما قال حبيب رب العالمين، صلوات ربي وسلامه عليه «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم».
أختم بأن الكلمة التي لا تقلق لا ولن تفيق، والرأي الذي لا يقاوم لا ولن يقوم، والحق الذي لا يواجه لا ينتصر ولن يمتد أثره، وهنا سأواصل الكتابة كما كتبت دائما، لا لأرضي ولا لأغضب؛ فقط لأقول ما أراه حقا، وسأترك للكلمة أن تمتحن نفسها بنفسها، ومن أراد الحقيقة منا، فليس أمامه إلا أن يفتح عقله قبل عينيه؛ فالغرض أن تستقيم العلاقة بين الكاتب والقارئ؛ لا تابع ولا متبوع، بل عقول تلتقي على أرض صدق واحدة، لتبقى الكلمة دائما حقا، لا مجرد رضا وإرضاء.. كل السعادة بالكتابة في «مكة»، ورضي الله عن الصديقة بنت الصديق «لم يطمئن قلبي ببلد ما اطمأن بمكة»، وإلى الملتقى بحول الله.