عبدالله التركي

القيادة الترابطية: حين يجتمع الحزم والتعاطف في قائد واحد

الخميس - 30 أكتوبر 2025

Thu - 30 Oct 2025


هل يولد القائد أم يصنع؟ سؤال تكرر كثيرا. بشكل عام القيادة لا تورث، بل تكتسب بالرغبة والجهد وتحمل المسؤولية. تظهر الدراسات أن الدافع للقيادة يرتبط بتولي الدور وفعاليته، وأن التدريب والتجربة يبدلان السلوك ويحسنان النتائج. وفي جوهرها، ليست القيادة مرتبطة بالمسمى الوظيفي، بل بالوعي بالأثر والدور؛ فالنادل يقود لحظة الضيافة بابتسامته، والمشرف يقود مسار الفريق بتوجيهه، وحتى عامل النظافة في وكالة ناسا حين سأله الرئيس كينيدي «ماذا تعمل هنا؟» أجاب بثقة «أنا أضع رجلا على القمر». جميعهم يسهمون في تشكيل ثقافة المنظمة وقيادتها.

أثناء دراستي، وجدت في القيادة الترابطية إطارا يربط ما يبدو متعارضا ويحوله إلى انسجام عملي. وخلال عملي، رأيت وجوها متعددة للقيادة: من يدقق في كل تفصيلة، ومن يمنح ثقته المطلقة، من ينجز بالسرعة أو يتأنى بالحكمة، من ينافس ليصل أو يتعاون ليبني، وعبر هذه التجارب أدركت أن القيادة ليست قالبا واحدا، بل طيف واسع يتشكل بحسب الموقف والإنسان.

ما هي القيادة الترابطية (Connective Leadership)؟
هي فلسفة قدمتها الباحثة الأمريكية جين ليبمان-بلومن، ترى أن القائد الفعال لا يعيش على نمط واحد، بل يتحرك بين أساليب متعددة حسب السياق. ليست تذبذبا ولا ضياع هوية، بل وعي باللحظة ومرونة في الاختيار.

تضم القيادة الترابطية تسعة أساليب ضمن ثلاث مجموعات:
1 - أنماط العلاقات، والتي يركز فيها القائد على الآخرين ومنها المتعاون: ينضم للجهود ويعمل مع الفريق. المساهم: يساعد ويدعم الآخرين في مهامهم. المرشد: يوجه وينقل الخبرات.
2 - الأنماط المباشرة، والتي يركز فيها القائد على الإنجاز ومنها المحفز ذاتيا: يتقن العمل والمهام بدافع ذاتي. المنافس: يسعى للتفوق ورفع السقف. السلطوي: يمسك بزمام القرار والصلاحيات.
3 - الأنماط التأثيرية، والتي يركز فيها القائد على النفوذ ومنها المؤثر بشخصيته: يقنع بكلامه وحضوره. الاجتماعي: يبني شبكات وعلاقات مؤثرة. المفوض: يمنح الثقة والصلاحيات لتمكين الآخرين.

القائد الترابطي يختار من هذه الأنماط ما يلائم الموقف. الاعتماد على منطقة قوة واحدة ينجح اليوم وقد يتعثر غدا. الاكتفاء بنمط واحد، مثل الحزم وحده، قد يحول القوة إلى عبء. فالحزم عنصر مهم، لكن الفرط فيه يخلق بيئة خانقة ومنفرة. كثير من القادة بنوا نجاحات قصيرة المدى بالصرامة المطلقة، لكنهم خسروا ولاء فرقهم وثقتهم. ستيف جوبز مثال بارز؛ أسلوبه الحاد قاده إلى إنجازات سريعة ثم إلى الإطاحة به وخروجه من آبل، لكنه عاد بروح متوازنة جمعت الحزم والتعاطف ليقود الشركة إلى مجدها.

من النظرية إلى ممارسة واعية
القيادة مسؤولية تمس حياة الناس ومستقبل المنظمة. ستنجز أحيانا بنفسك، وتركز أحيانا على الآخرين، وتعزز أحيانا نفوذك. وفريقك كذلك: منهم من يحتاج متابعة، ومن يزهر بالتمكين، ومن يكفيه التقدير. وحين توازن بين هذه الاحتياجات، تولد ثقافة مطمئنة ومسؤولة ومبهجة، تحسن تجربة البشر وتديم النجاح. ابدأ بقراءة المشهد قبل اختيار أسلوبك، وداوم على مراجعة ذاتك وتدرب على اكتشاف نقاط ضعفك وتطويرها. هذا جوهر ما طرحته جين ليبمان-بلومن حين صاغت القيادة الترابطية وبنتها على تحليل أساليب آلاف القادة منذ الثمانينيات، ثم حولتها إلى ممارسة قابلة للقياس عبر معهد القيادة الترابطية وأداة ASI (Achieving Styles Inventory) التي ترسم ملفك الترابطي بقياس تكرار لجوئك إلى الأنماط التسعة وتحديد مناطق القوة والفجوات لتوجيه أولويات التطوير.

ختاما، القيادة الترابطية ليست نظرية فلسفية فقط، بل مهارة عملية لواقع سريع التبدل. المستقبل لمن يعرف كيف يجمع المتناقضات في معادلة واحدة، يلهم وينجز ويؤثر، بأسلوب يصنع الفارق الإيجابي.