الفطرة تحت المقصلة: كيف يعاد تشكيل وعي الأطفال؟
الأربعاء - 29 أكتوبر 2025
Wed - 29 Oct 2025
لم تكن الحرب على القيم يوما بالسيوف والدبابات فقط، بل صارت اليوم تدار عبر الشاشات الصغيرة والرسوم البريئة التي تخاطب عقول الأطفال وقلوبهم.
المنصة الترفيهية العالمية التي اشتهرت بإنتاج أعمال ضخمة وجماهيرية، لم تكتف بدس السم في محتوى الكبار، بل تجاوزت ذلك مؤخرا إلى تلويث براءة الصغار بما يخالف الفطرة والحياء والدين.
في زمن اختلطت فيه الحدود بين الترفيه الإبداعي العفوي، والتوجيه الخبيث المتعمد، خرجت إلينا منصة ترفيهية عالمية كانت يوما مقصدا لعشاق السينما، لتتحول مع مرور الوقت إلى أخطر أدوات تفكيك الفطرة وتشويه القيم. لسنوات طويلة، كانت هذه المنصة تدس السم في العسل، تغلف الانحراف بعباءة الإبداع، وتزرع الشذوذ تحت مظلة الحرية، فابتعد عنها الواعون، وتمادى في متابعتها الغافلون. واليوم، لم تكتف بما فعلته بالكبار، بل مدت يدها الآثمة إلى عقول الصغار. إنها حرب ناعمة، لكنها أشد خطرا من كل الحروب الخشنة، لأنها تستهدف الأصل الذي يبنى عليه المستقبل: الطفل.
منذ سنوات طويلة، كانت هذه المنصة تدير حملتها بشكل ماكر، تقدم مشاهد صغيرة وتلميحات عابرة هنا وهناك، حتى اعتاد الناس وجودها، وتبلد الإحساس تجاهها، لقد كانت البداية خفية، لقطات صغيرة ومشاهد عابرة تمر دون انتباه، حتى صار القبح مألوفا، والمنكر مقبولا، بحجة «أننا نعرف الصح من الغلط».
قالوا إن المشاهد الواعي لا يتأثر، وإنه قادر على التمييز بين الخير والشر. لكن الحقيقة أن التكرار يغرس، والعين تألف، والنفس تميل لما تراه جميلا في الظاهر، وإن كان فاسدا في الباطن. يقدم الشر مغلفا بالفن والخيال والإبداع، فينخدع به الكبار قبل الصغار. التكرار يصنع الألفة، والألفة تميت الإنكار.
وما حدث مؤخرا ليس انحرافا جديدا، بل إعلان صريح لما كان يدار في الخفاء.
لقد انتقلت المنصة الخبيثة إلى مرحلة أكثر وقاحة، فصارت تدس السم في كرتون الأطفال! هناك حيث البراءة المطلقة، وحيث تتشكل أولى المفاهيم عن الخير والشر. فبدل أن يتعلم الطفل الشجاعة والصدق والرحمة، يقدم له الانحراف في قالب محبة وتقبل، والشذوذ في ثوب الإنسانية، والخلل في صورة التنوع. إنها جريمة ناعمة ترتكب بألوان زاهية وأغان بريئة.
المثير أن الرفض لم يأت فقط من المحافظين أو من أهل الدين، بل حتى من شخصيات عالمية لا تعرف بالتدين أو الالتزام، مثل «إيلون ماسك» الذي خرج بتغريدات يحذر فيها من هذا الانحراف الممنهج، مؤكدا أن ما يحدث في إعلام الأطفال تجاوز كل الخطوط الحمراء. وهذا دليل على أن الفطرة الإنسانية السليمة، وإن غطاها الغبار، فإنها ترفض ما يناقض طبيعتها. الإنسان بطبعه يميل إلى الاستقامة والتوازن، وحين يرى العبث بالفطرة، ينفر منه ولو لم يكن مؤمنا. إنها صرخة الفطرة قبل أن تكون موقفا فكريا، فالفطرة تعرف متى يمس جوهرها، وتدرك أن الإنسان حين يبدل خلقه ويمسخ طبيعته، يفقد إنسانيته قبل دينه.
نحن اليوم أمام مسؤولية كبرى لا يمكن الهروب منها. على الأسرة أن تعي أن التربية لم تعد فقط في البيت والمدرسة، بل في كل شاشة يحملها الطفل في يده. على الوالدين أن يراقبا، يوجها، ويختارا المحتوى بوعي، وألا يسلما أبناءهما لتلك المنصات الخبيثة التي تتخذ من الترفيه ستارا، ومن الفساد مشروعا. التربية الواعية لم تعد خيارا، بل هي خط الدفاع الأخير عن الفطرة والعقيدة والقيم.
وفي النهاية، لا نملك إلا أن نقول: إن الحرب على الفطرة خاسرة، لأن الله فطر الناس على الحق، وإن حاولت بعض المنصات الخبيثة أن تعيد تشكيل الإنسان على طريقتها، فسيبقى هناك من يبصر، ومن يحذر، ومن يعيد الصوت إلى صوابه. فليحذر الآباء، ولتستيقظ العقول، ولنتذكر جميعا أن من يعبث ببراءة الأطفال لا يقدم ترفيها، بل جريمة مغلفة بالألوان، وسيبقى الضوء في قلوب تعرف ربها، وتدرك أن الفطرة ليست رأيا يبدل، بل ميثاق فطري كتبه الله في الإنسان منذ ولادته.