من سلطة امرأة إلى سقوط إمبراطور: قصة تسيشي ومذكرات بويي
الثلاثاء - 28 أكتوبر 2025
Tue - 28 Oct 2025
امرأة على عرش الظلال
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الصين إمبراطورية مترامية الأطراف لكنها واهنة، تنهشها القوى الأجنبية من كل جانب. وسط هذا المشهد المؤزم، برزت امرأة استثنائية: الإمبراطورة الأرملة تسيشي. دخلت القصر كجارية ثانوية للإمبراطور، لكنها سرعان ما امتلكت ذكاء سياسيا جعلها تصعد في هرم السلطة حتى أمسكت بزمام الحكم بعد وفاة زوجها.
كانت امرأة حديدية، تمارس السلطة من وراء الستار، وتدير الأباطرة الصغار كما لو كانوا بيادق في رقعة شطرنج. غير أن قبضتها القوية لم تخل من قسوة: فقد عرفت بسياساتها المحافظة، ومقاومتها لأي إصلاحات عميقة، مما جعل الصين تتأخر عن ركب التحديث بينما تغزوها القوى الاستعمارية.
سرقة العرش من المستقبل
لم تسرق السلطة من الأباطرة الذكور فقط، بل سرقت من المستقبل ذاته. حين رحلت تسيشي عام 1908، تركت وراءها عرشا منهكا، وإمبراطورية تتداعى، فاختارت وريثا طفلا لم يتجاوز الثالثة من عمره: بويي. هكذا دخل الصغير إلى "المدينة المحرمة"، لا يعرف من الطفولة إلا ثقل التاج، ولا من العالم إلا جدران القصر.
ويقول في مذكراته «لم أكن أعلم ما هو التاج، ولماذا يجلس الناس ليؤدوا لي طقوسا غريبة، كنت أبكي أكثر مما أبتسم».
إمبراطور في قفص
جلس بويي على العرش طفلا لا يدرك شيئا، بينما كانت الصين في الخارج تنفجر بثورة 1911، التي أنهت الإمبراطورية وفتحت عهد الجمهورية. لكنه بقي داخل القصر، يعيش أوهام السيادة تحت مظاهر الطقوس الإمبراطورية. كان إمبراطورا بلا رعية، رمزا بلا قوة، شاهدا صغيرا على انهيار كبير.
ويذكر «كنت أرى نفسي سيد العالم، وأنا في الحقيقة سجين باب وحرس لا يفارقونني».
اليابان واستغلال الاسم
بعد سنوات، جاء اليابانيون ليجدوا في هذا "الإمبراطور المعزول" فرصة مثالية. أعادوه إلى الساحة ونصبوه "إمبراطور مانشوكو"، لكنه لم يكن أكثر من صورة تزيينية. باسمه ارتكبت جرائم القمع والقتل ضد الصينيين، وبأمره الظاهري فرض الاستعمار الياباني. لم يكن له قرار ولا سلطة، بل كان سجينا في قصر جديد، يراقبه الضباط اليابانيون ليلا ونهارا.
وقال في مذكراته «لقد كانوا يضعون في فمي كلمات لم أقلها، ويرسلون توقيعي على مراسيم لم أقرأها قط».
الشيوعيون وإعادة تشكيل الصورة
بعد الحرب العالمية الثانية، سقط بويي في أيدي السوفييت ثم سلم للشيوعيين. هؤلاء لم يتركوا الفرصة تضيع: استخدموه رمزا دعائيا لإظهار "انتصار الشعب على الإقطاع"، وأخضعوه لسنوات من إعادة التأهيل السياسي. صار نموذجا "للإمبراطور الذي أصلحه الحزب"، حتى تحول إلى موظف بسيط في بكين.
ويكتب «لم يكن لي من الاختيار شيء، حتى ندامتي لم تكن ملكي، بل جعلوها دليلا على قوتهم».
خاتمة: خيط يبدأ بامرأة وينتهي برجل مكسور
حين نقرأ سيرة بويي، ندرك أنها لم تبدأ به، بل بدأت بامرأة قوية سرقت العرش من المستقبل: تسيشي التي جعلت السلطة لعبة بيدها، وحكمت بالإرادة الحديدية حتى أوهنت الدولة. ومن بين أنقاض ذلك الإرث جاء بويي، طفلا محاصرا بالألقاب، ثم رجلا محاصرا بالدعاية. هكذا تحولت حياته إلى ملحمة من الاستغلال والانكسار، مرآة لتاريخ الصين حين انتقلت من الإمبراطورية إلى الجمهورية، ومن الظلال الثقيلة لامرأة إلى الانكسار الكامل لآخر إمبراطور.
ومضة: عن الكتاب
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الصين إمبراطورية مترامية الأطراف لكنها واهنة، تنهشها القوى الأجنبية من كل جانب. وسط هذا المشهد المؤزم، برزت امرأة استثنائية: الإمبراطورة الأرملة تسيشي. دخلت القصر كجارية ثانوية للإمبراطور، لكنها سرعان ما امتلكت ذكاء سياسيا جعلها تصعد في هرم السلطة حتى أمسكت بزمام الحكم بعد وفاة زوجها.
كانت امرأة حديدية، تمارس السلطة من وراء الستار، وتدير الأباطرة الصغار كما لو كانوا بيادق في رقعة شطرنج. غير أن قبضتها القوية لم تخل من قسوة: فقد عرفت بسياساتها المحافظة، ومقاومتها لأي إصلاحات عميقة، مما جعل الصين تتأخر عن ركب التحديث بينما تغزوها القوى الاستعمارية.
سرقة العرش من المستقبل
لم تسرق السلطة من الأباطرة الذكور فقط، بل سرقت من المستقبل ذاته. حين رحلت تسيشي عام 1908، تركت وراءها عرشا منهكا، وإمبراطورية تتداعى، فاختارت وريثا طفلا لم يتجاوز الثالثة من عمره: بويي. هكذا دخل الصغير إلى "المدينة المحرمة"، لا يعرف من الطفولة إلا ثقل التاج، ولا من العالم إلا جدران القصر.
ويقول في مذكراته «لم أكن أعلم ما هو التاج، ولماذا يجلس الناس ليؤدوا لي طقوسا غريبة، كنت أبكي أكثر مما أبتسم».
إمبراطور في قفص
جلس بويي على العرش طفلا لا يدرك شيئا، بينما كانت الصين في الخارج تنفجر بثورة 1911، التي أنهت الإمبراطورية وفتحت عهد الجمهورية. لكنه بقي داخل القصر، يعيش أوهام السيادة تحت مظاهر الطقوس الإمبراطورية. كان إمبراطورا بلا رعية، رمزا بلا قوة، شاهدا صغيرا على انهيار كبير.
ويذكر «كنت أرى نفسي سيد العالم، وأنا في الحقيقة سجين باب وحرس لا يفارقونني».
اليابان واستغلال الاسم
بعد سنوات، جاء اليابانيون ليجدوا في هذا "الإمبراطور المعزول" فرصة مثالية. أعادوه إلى الساحة ونصبوه "إمبراطور مانشوكو"، لكنه لم يكن أكثر من صورة تزيينية. باسمه ارتكبت جرائم القمع والقتل ضد الصينيين، وبأمره الظاهري فرض الاستعمار الياباني. لم يكن له قرار ولا سلطة، بل كان سجينا في قصر جديد، يراقبه الضباط اليابانيون ليلا ونهارا.
وقال في مذكراته «لقد كانوا يضعون في فمي كلمات لم أقلها، ويرسلون توقيعي على مراسيم لم أقرأها قط».
الشيوعيون وإعادة تشكيل الصورة
بعد الحرب العالمية الثانية، سقط بويي في أيدي السوفييت ثم سلم للشيوعيين. هؤلاء لم يتركوا الفرصة تضيع: استخدموه رمزا دعائيا لإظهار "انتصار الشعب على الإقطاع"، وأخضعوه لسنوات من إعادة التأهيل السياسي. صار نموذجا "للإمبراطور الذي أصلحه الحزب"، حتى تحول إلى موظف بسيط في بكين.
ويكتب «لم يكن لي من الاختيار شيء، حتى ندامتي لم تكن ملكي، بل جعلوها دليلا على قوتهم».
خاتمة: خيط يبدأ بامرأة وينتهي برجل مكسور
حين نقرأ سيرة بويي، ندرك أنها لم تبدأ به، بل بدأت بامرأة قوية سرقت العرش من المستقبل: تسيشي التي جعلت السلطة لعبة بيدها، وحكمت بالإرادة الحديدية حتى أوهنت الدولة. ومن بين أنقاض ذلك الإرث جاء بويي، طفلا محاصرا بالألقاب، ثم رجلا محاصرا بالدعاية. هكذا تحولت حياته إلى ملحمة من الاستغلال والانكسار، مرآة لتاريخ الصين حين انتقلت من الإمبراطورية إلى الجمهورية، ومن الظلال الثقيلة لامرأة إلى الانكسار الكامل لآخر إمبراطور.
ومضة: عن الكتاب
- العنوان الأصلي: From Emperor to Citizen: The Autobiography of Aisin-Gioro Pu Yi
- المؤلف الأصلي: آيشين جيولوه بويي (Aisin-Gioro Puyi)
- الترجمة الإنجليزية: ترجمها W. J. F. Jenner
- الترجمة العربية: ترجمها محمد نمر عبد الكريم
- دار النشر باللغة الإنجليزية: Foreign Languages Press – Beijing, China
- الطبعة الثالثة (جديدة مع تحديثات وإضافات): 2005
- دار النشر باللغة العربية: دار النشر باللغات الأجنبية
- سنة النشر (عربي): 1985 ميلادي