بائع الشاي، وبائعة الخبز
الاثنين - 27 أكتوبر 2025
Mon - 27 Oct 2025
يتكرر في الإعلام الحديث عن باعة الشاي ومنتجات المنازل لأشخاص ينتشرون في شوارع المملكة، وعن قصص يروى فيها أن هؤلاء الباعة يحققون مكاسب تفوق التوقع.
تقدم القصة أحيانا على أنها مصدر عصامية وفخر، ونماذج للكفاح، وصور لبساطة الحلول والاعتماد على الذات!
غير أن خلف هذه المشاهد الملونة تكمن أسئلة أعمق تتعلق بالقبول والكرامة، والعدالة، والتوازن الاجتماعي، الذي هو أهم ركائز المجتمع السعودي.
حين نرى كبار السن والنساء والمراهقين يقفون ساعات طويلة تحت الشموس يبيعون الشاي أو الخبز، لا يمكن أن نمر بالمشهد مرور الكرام.
فهؤلاء لم يختاروا الشارع حبا به، بل اضطرارا. وفي الوقت الذي تنعم فيه مملكتنا بالرؤية ورفع شعارات التمكين والتطوير، نجد هؤلاء المواطنين يمارسون أعمالا مجهدة مؤقتة، موسمية، بلا خطة ولا ضمان، ولا استمرارية، ولا أفق حقيقي للكرامة والترقي.
هل يمكن أن نتصور أبناء الأسر الميسورة يعملون على الأرصفة لبيع منتجات منازلهم؟
وهل يجوز أن يتحول البيت إلى مصنع صغير يدور حول الحاجة لا الطموح؟
إن الفقر ليس عيبا، لكن تحويل الحاجة إلى ثقافة عامة يخل بالتوازن الاجتماعي ويؤسس لنشوء طبقات غير متكافئة.
فحين يقف رجل كبير السن ليبيع كوب شاي لمن كان بالأمس ضيفا عنده، أو لمن كان عازما على أن يخطب ابنته، فإننا أمام لحظات تحول تمس كرامة الإنسان أكثر مما تمس جيبه.
ليس في هذه المهن خطأ من حيث المبدأ، ولكن أن يروج لتحويلها لظاهرة ابتكار وتنافس تشكل خطورة على صورة المجتمع وعلى مستقبل أفراده.
فهي أعمال لا يرتضيها الكريم لأهله، وهي مجهدة تستهلك الجسد ولا تبني المستقبل، ولا يمكن الاعتماد عليها لتربية الأبناء أو تعليمهم أو حفظ كرامة وكينونة الأسرة.
الأسوأ هو الشعور بالذنب، وأن يشجع الأبناء على مشاركة آبائهم في البيع، فينصرفون عن مدارسهم، ما يزرع فيهم مبكرا شعورا بأن الحياة ظالمة لا تمنح الفرص المتساوية لكل مجتهد منتج محب للوطن.
كما أن المنافسة مع المقيمين أو المتسللين تزيدهم رهقا.
والمطلوب ليس محاربة هؤلاء، بل تنظيم عملهم بما يحفظ كرامتهم ويثبت اعتزاز الدولة بهم كأفراد لا يقلون عن بقية الشعب.
وعلى الوزارات المعنية أن تنشئ أكشاكا رسمية مجهزة بعوامل الراحة، وأن تمنحهم تراخيص واضحة، وتوفر لهم دعما لوجستيا وماليا ودون إرهاقهم بالرسوم.
فحين يكون العمل منظما يصبح رسميا شريفا ومنتجا، أما حين يترك للظروف فسرعان ما يتحول إلى مشهد ازدراء يثير الشفقة أكثر مما يثير الاحترام.
الشارع ليس فضاء للتنافس في الرزق، بل مساحة مؤقتة تفضح أحيانا ما نغفل عنه من تفاوت اجتماعي، ومن أصحاب قدرات لا يملكون الفكرة والوسيلة.
لذلك فإن من واجب الإعلام والمثقفين أن يناقشوا هذه الظاهرة بوعي ومسؤولية، لأن المسألة ليست في بيع الشاي والخبز، بل في معنى أن يعمل الإنسان دون أن يفقد مكانته في المجتمع.
فكرامة السعودي في نهاية الأمر ليست رفاهية، بل شرط أساسي للحياة الكريمة.
ورؤيتنا تتطلع إلى المستقبل المضيء للجميع، بأن تضع الإنسان في مركز عينها، لا على شوارد الرصيف.
shaheralnahari@