علي الحجي

بروح المعلم ينهض التعليم

الاثنين - 27 أكتوبر 2025

Mon - 27 Oct 2025


التعليم لم يكن يوما وظيفة عادية، بل كان رسالة كبرى تحمل في جوهرها صناعة الإنسان وبناء شخصيته وعقله ووجدانه. كل معلم عرف فرحة أن يرى طفلا يقرأ جملته الأولى أو ينطق كلماته بثقة، يدرك أن تلك اللحظة تختصر معنى المهنة كله، فهي لحظة ميلاد وفتح أبواب جديدة للحياة. تلك المشاعر كانت هي الوقود الذي يجعل المعلم يصمد أمام التحديات ويواصل العطاء.

لكن مع الزمن، جرى قولبة التعليم وإخضاعه لآليات تشبه خطوط الإنتاج في المصانع، حيث تحول إلى جداول أرقام وتقارير أداء ونتائج كمية. الروح الإنسانية التي كانت تنبض في الصفوف استبدلت بالمهام البيروقراطية، فصار المعلم ينفق ساعات طويلة في تسجيل الملاحظات، وملء الاستمارات، وإدخال البيانات على أنظمة الكترونية، أكثر مما يقضي وقتا في التفاعل الحقيقي مع طلابه. إن وقت المعلم وجهده، اللذين كان ينبغي أن يذهبا مباشرة إلى بناء العقول ورعاية القلوب، باتا يهدران بلا طائل في أعمال إدارية لا تزيد قيمة حقيقية للتعليم. ومع هذا الهدر المتواصل للطاقة، يتسلل الإرهاق والاحتراق النفسي إلى نفوس المعلمين، فتبهت حماستهم، ويشعرون أنهم يركضون خلف مهام لا تنتهي دون أن يروا الأثر الذي حلموا به.

وفي خضم هذا المشهد، صار الطالب في نظر بعض السياسات رقما في قائمة، لا روحا تنمو وتتشكل. انقلبت الأولويات، وأصبح التركيز على المخرجات السريعة لا على بناء إنسان متكامل. ومع ذلك، يظل في قلب المهنة سرها الذي لا ينطفئ: علاقة المعلم بطلبته. هذه العلاقة هي التي تحفظ للتعليم جوهره الإنساني مهما حاولت الأرقام اختزاله.

إن النهضة التعليمية لن تتحقق عبر الأوامر والأنظمة وحدها، بل على أكتاف التربويين أبناء الميدان الذين يعرفون تفاصيله ويعيشون آلامه وآماله. هؤلاء هم الذين يؤمنون بأن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة، وبأن الطالب ليس مجرد متلق للمعلومة، بل إنسان يحتاج إلى رعاية شاملة. ولن ينهض التعليم إلا باستعادة روح المعلم الذي يرى في طلابه أبناء له، يعتبر تعليمهم واجبا ورسالة، ويشعر أن نجاحهم نجاح له وأن إخفاقهم خسارة شخصية تستحق أن يبذل من أجلها كل ما يستطيع.

وحين نعيد الاعتبار لهذه الروح، سيتحول الصف من مكان جامد إلى فضاء نابض بالمعنى، وتستعيد المدرسة دورها كمصنع للأمل وبوصلة للمستقبل.

فالتعليم في جوهره ليس سباق درجات ولا تراكم مؤشرات، بل بناء إنسان. وهذه الحقيقة هي التي يجب أن تبقى مركز كل إصلاح ورؤية، لأنها وحدها كفيلة بأن تعيد للتعليم مكانته، وللمعلم احترامه، وللمجتمع طمأنينته على مستقبل أجياله.