تركي القبلان

التحول السعودي نحو الفاعلية الاستراتيجية في عالم ما بعد الأحادية القطبية

الاثنين - 27 أكتوبر 2025

Mon - 27 Oct 2025


يشهد العالم في العقدين الأخيرين تحولا بنيويا عميقا في موازين القوى وفي طبيعة النظام الدولي، إذ تتراجع الأحادية القطبية التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة لصالح تعددية جديدة في مراكز القرار والنفوذ. هذا التحول لا يقتصر على المجال السياسي أو العسكري فحسب بل يمتد إلى الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي تعيد رسم خريطة العلاقات بين الدول. وفي خضم هذا الحراك العالمي تتقدم المملكة العربية السعودية لتؤكد حضورها كفاعل رئيسي في صياغة معادلات الشرق الأوسط الجديدة، لا بوصفها جزءا من التوازنات القائمة بل بوصفها مركزا لإنتاج توازن جديد ورؤية مغايرة للعلاقات الإقليمية والدولية.

ومن هذا المنطلق: يتناول هذا المقال مفهوم «الأوسطية الجديدة» الذي أقدمه كمقاربة جيوبوليتيكية تنطلق من الإدراك بأن الشرق الأوسط لم يعد يفهم بحدوده القديمة ولا بمعادلاته التقليدية، بل بوصفه فضاء سعوديا في جوهره القيادي والحضاري. فالمملكة تمتلك من المقومات التاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية ما يجعلها مؤهلة لأن تكون محور إعادة التشكل الإقليمي. ويأتي هذا الطرح في وقت يشهد فيه العالم تحولا بنيويا نحو التعددية القطبية، حيث تتغير خرائط القوة ومفاهيمها ويعاد توزيع مراكز الثقل في النظام الدولي.

إن «الأوسطية الجديدة» التي أطلقتها ليست شعارا سياسيا بل رؤية فكرية - استراتيجية تعيد تعريف موقع السعودية ودورها في النظام الدولي، وتفتح أفقا جديدا لفهم التحولات القادمة في الشرق الأوسط والعالم.

منذ قيام الدولة الإسلامية كانت مكة المكرمة والمدينة المنورة تمثلان مركز الارتكاز الجيوبوليتيكي للعالم الإسلامي، وتشكل عبرهما مجال نفوذ ممتد من الجزيرة العربية إلى محيطها، واليوم ومع صعود السعودية إلى موقع القيادة الحضارية تبرز الحاجة إلى تعزيز الشخصية الجغرافية والتاريخية لهذا المركز عبر توسيع نطاق تأثيره باتجاه أفريقيا والبحر الأحمر، ليولد من هذا الامتداد فضاء جيواقتصادي سعودي يعيد رسم زخم التفاعل الإقليمي. فالعالم يتحرك اليوم لتحديد مكانه في فضاء القوة الجديد الذي يتأسس على عناصر ثلاثة هي القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وهذا التحول يقود إلى فن توزيع القوة ومضاعفة القدرات من أجل تحقيق التوازن الاستراتيجي وصولا إلى التفوق الاستراتيجي.

في هذا السياق يشكل الخليج العربي «نطاقا» حيويا ذا خصوصية جغرافية تستدعي إدارة دقيقة لتوازناته الأمنية والاقتصادية، إذ بيئته الأمنية الحساسة هي التي تمنحه أهمية استثنائية للحفاظ على المكتسبات الاقتصادية، فيما يفتح البحر الأحمر «مجالا» أوسع للتكامل الاستراتيجي يكمل هذا النطاق ويمنحه مجالا حيويا أوسع يضيف إلى المملكة إمكانات هندسة توازن استراتيجي بين شطري «النطاق والمجال». ومن هذا المنظور ينبغي تعظيم أهمية البحر الأحمر كمجال حيوي لا يقل أهمية عن الخليج العربي، بل يفوقه من حيث طاقته الجيوسياسية الممتدة نحو القارة الأفريقية. فالمطلوب تحويل البحر الأحمر من بحر فاصل إلى بحر واصل، والعمل على هندسة مدخل باب المندب لتأمينه بما يخدم المصالح السعودية والدول المتشاطئة، مع منع أي طرف من العبث بهذا المجال الحيوي أو استثماره كورقة ضغط في المستقبل.

إن التوازن الإقليمي الجديد يفتح الباب أمام تشكل فضاء إقليمي بمعايير سعودية، يقوم على مرتكزات اقتصادية وتنموية مستلهمة من التجربة السعودية في الإصلاح المالي، وتعزيز الحوكمة، ومحاربة الفساد، وبناء مناخ تنموي يهدف إلى رفع مستوى المعيشة وتنمية الإنسان. ويستند هذا الفضاء إلى رؤية تقوم على جعل الاقتصاد أداة للاستقرار والتنمية أساسا للنفوذ، بحيث تتحول التجربة السعودية من نموذج وطني ناجح إلى إطار إقليمي للتكامل والازدهار المشترك.

إن المقصود «بالمعايير السعودية» ليس فرض نموذج أو نسق بعينه بل تقديم مرجعية عملية وأخلاقية في الإدارة والنهضة، تُعيد تعريف التنمية بوصفها مشروعا إنسانيا جامعا، وتُشكل نواة لفضاء عربي - إقليمي يتوحد حول مفاهيم الكفاءة والشفافية والعدالة الاقتصادية ورفاه الشعوب. ومن شأن هذا الفضاء أن يصوغ منظومة إقليمية تتقاطع فيها المصالح والرؤى ضمن مشروع تنموي مشترك.

لقد مكنت عناصر القوة التي راكمتها المملكة من بلوغ هذا الموقع المتقدم. فإلى جانب عمقها الاستراتيجي تتمتع السعودية بشعب حيوي ناضج ونسق اجتماعي متماسك واقتصاد متنوع وأمن قادر على فرض الاستقرار في النطاق الجغرافي وقوة عسكرية رادعة. وهذه المقومات جعلت منها فاعلا رئيسيا في التوازنات الإقليمية والعالمية ومرجعا في صياغة المعادلات الجديدة في المنطقة.

الفكر الاستراتيجي في جوهره يقوم على ركيزتين: التوقع والتموقع. وعندما صاغت المملكة رؤيتها 2030 كانت تبنيها على مبدأ التوقع: أين سنكون في المستقبل؟ أما اليوم: فنحن نشهد بداية مرحلة التموقع، أي تحديد موقع المملكة في المستقبل الذي توقعته لنفسها قبل عقد. وبهذا المعنى تحولت الرؤية من وثيقة اقتصادية إلى نظرية سعودية في التموقع الحضاري والسياسي.

وعلى الصعيد الفلسفي: إذا كان هيغل يرى في نظريته أن التاريخ يبدأ من آسيا وينتهي في أوروبا، فإن الواقع الراهن يقدم شواهد حية تنقض هذه الرؤية. فالمركز الحضاري يعود مجددا إلى الشرق حيث تتقاطع المبادرات السعودية والآسيوية في المساهمة لإعادة تشكيل النظام الدولي، في دلالة على أن التاريخ الذي بدأ من آسيا ينتهي إليها مرة أخرى.

ولأن النشوء القومي العربي بدأ من الجزيرة العربية، فإن تصاعد التنميط الثقافي الخارجي يفرض ضرورة بروز الجزيرة العربية كقوة حضارية خالصة ومصدر نقي للثقافة العربية والإسلامية، وحائط صد أمام محاولات طمس الهوية وتشويه المفاهيم.

إن الاقتصاد في هذا العصر هو العنصر الجاذب الذي يخلق المشتركات السياسية ويؤسس للعقلانية في إدارة المصالح. ومن هذا المنطلق فإن بناء سوق شرق أوسطي مشترك تشارك المملكة في صياغة ملامحه وتوازناته، يشكل خطوة جوهرية في تجاوز الإشكالات التاريخية، إذ إن أدوات هذا العصر اقتصادية في جوهرها والمصالح المتبادلة هي الضامن الحقيقي للاستقرار الدائم.

وبقدر ما تكتسب منطقتنا أهمية جيوسياسية وجيواقتصادية بقدر ما تنتج هذه الأهمية مخاطر وتحديات. لذلك فإن استثمار هذا الامتياز يتطلب وعيا استراتيجيا وقدرة على تحييد المخاطر وتعظيم الفرص. كما أن المراجعة الفكرية والسياسية للمجال الحيوي السعودي باتت ضرورة تفرضها التحولات، بما يعيد توجيه البوصلة نحو الامتداد الطبيعي للمملكة في عمق الجزيرة العربية باتجاه الغرب والجنوب الغربي وما بعد البحر الأحمر، دون أن ينتقص ذلك من أهمية الخليج العربي كنطاق حيوي مكمل.

بهذا الفهم: تمثل «الأوسطية الجديدة» تصورا سعوديا متقدما لإدارة التوازنات الإقليمية، وتحول المملكة من مركز جغرافي إلى مركز للرؤية والعقلانية والفاعلية السياسية، لتصبح بذلك حجر الزاوية في تشكيل الشرق الأوسط الجديد في عالم ما بعد الأحادية القطبية.

TurkiGoblan@