نوال حسن المطيري

أبي.. أسلوب تربوي يصنع المسؤولية

السبت - 25 أكتوبر 2025

Sat - 25 Oct 2025



التربية، في جوهرها، ليست مجرد فرض قواعد أو تعليم مهارات سطحية، بل هي رحلة في فهم الحياة، وصقل الشخصية، وبناء القدرة على مواجهة الواقع بعقلانية وصبر. الحكمة التي تنمو داخل الإنسان لا تأتي من كلمات تقال، بل من تجارب حقيقية يختبر فيها المرء نفسه، ومن توجيه رشيد يفتح له أبواب الإدراك الواعي. حين نفكر في التربية على هذا النحو، ندرك أن لكل قرار تبعاته، وأن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا مع تحمل المسؤولية، وأن القوة الحقيقية للإنسان تنبع من القدرة على الاختيار الواعي.

في تلك الفترة التي أهملت فيها دراستي، جلست أمام أبي. لم يرفع صوته ولم يوبخني، بل جلس حازما وهادئا، كأن صمته كان أول درس، ونظرته نافذة تطل على الحقيقة. لم يكن يحمل الشهادات، لكنه حمل ما هو أثقل: خبرة الزمن وفهم الحياة. قال لي:

«انظري إلى زميلاتك: الآن أنتن متساويات في هذه المرحلة من الحياة، لكن بعد عدة سنوات هذه ستصبح دكتورة، وتلك قد تواجه الفشل، وأخرى ستبني مسيرة علمية ناجحة، وأخرى حياتها ستكون شاحبة وفقيرة... أنت من تريدين أن تكوني؟ قرري، واعملي على قرارك، فقرارك مسؤوليتك وحدك وعليك أن تتحملي نتائجه».

هذا المشهد لم يكن مجرد نصيحة، بل كان تجسيدا لأسلوبه الذي أصفه بـ«التوجيه الواعي مع التصادم بالواقع». هنا، تتضح إحدى المبادئ التربوية الأساسية: الحرية المصحوبة بالمسؤولية. إن القدرة على التنبؤ بعواقب القرارات وفهم نتائجها هي ما يميز التربية الواعية عن التربية الانضباطية الجامدة، وهي ما يمنح الفرد القوة الداخلية لاتخاذ القرارات بحكمة.

في جوهر التربية التي مارسها أبي، نجد أنها ليست فرض قواعد جامدة، بل صقل الشخصية وبناء القدرة على مواجهة الحياة بعقلانية وصبر. الحوار المدروس لم يكن مجرد كلام يقال، بل عملية نفسية متكاملة: تتيح للابن اختبار اختياراته واكتساب القوة الداخلية لاتخاذ القرار بوعي، وتحمل نتائج أفعاله. هذه التربية تنمي قوة الشخصية، ووعي الذات، والتحمل النفسي، والنضج العقلي، وهي صفات لا تكتسب إلا من تجربة واقعية مدروسة.

وهنا يبرز الفرق بين التربية بالتحكم والتربية بالوعي:

- التربية بالتحكم: تعتمد على فرض القواعد والقيود الصارمة، والتحكم المستمر في السلوك، مما يؤدي أحيانا إلى طاعة عمياء لكنها تفتقر إلى الفهم الواعي، وقد تخلق مقاومة نفسية أو شعورا بالخوف بدل النضج.

- التربية بالوعي: تركز على الحوار، وتحمل المسؤولية، وتجربة النتائج الواقعية، مما يغرس النضج الداخلي، ويمنح الشخص قدرة على التفكير النقدي، واتخاذ القرار، وتحمل النتائج، وبالتالي بناء شخصية مستقلة قوية وقادرة على مواجهة تحديات الحياة. أسلوب أبي كان نموذجا حيا لهذا المفهوم، حيث منح الحرية مع التحمل، ودمج بين العقلانية والانضباط، وبين التعلم من الواقع وتجربة الذات.

والدي لم يحظ بالكثير من الدراسة الرسمية، لكنه فهم البشر والحياة بطريقة تتفوق على كثير من الكتب. فالحكمة عنده كانت في وضعنا أمام واقعنا الحقيقي، لنختبره ونفهمه بأنفسنا. كل درس كان يقدم بعقلانية صارمة، مع حرية مسؤولة ووعي نفسي كامل بقدراتنا وقيودنا. التربية الحقيقية، كما تعلمنا، هي منهج حياة يزرع القدرة على التفكير، والتقييم، والمواجهة، واتخاذ القرار بمسؤولية.

هذا النموذج التربوي ليس مجرد تجربة شخصية، بل درس لكل أسرة وقارئ:

- الحوار الواقعي يفوق الصراخ والتهديد.

- الحرية المقننة تنمي الشخصية أكثر من الطاعة العمياء.

- المسؤولية المبكرة تبني نضجا نفسيا لا يكتسبه الفرد بالصدفة.

- القدرة على رؤية النتائج قبل اتخاذ القرار تنمي العقلانية والحكمة.

وفي الختام، أوجه إلى والدي المتوفى رسالة تقدير:

لقد علمتني أن الحكمة لا تقاس بالشهادات، وأن المسؤولية هي جوهر الحرية، وأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على اتخاذ القرار وتحمل تبعاته. اليوم، وأنا أسير في حياتي، أرى أثر حكمتك في كل خيار أتخذه، وأدرك أن التربية الحقيقية كانت هديتك الأعظم لنا، أغلى من أي شهادة، وأعمق من أي كتاب.