(حين يتكلم الجسد بلغة القائد) قراءة سيكو لسانية
الخميس - 23 أكتوبر 2025
Thu - 23 Oct 2025
لا يختلف اثنان على أن مهارات الاتصال غير اللفظي ليست مجرد أدوات مكملة للحوار، بل هي محور أصيل في بناء التأثير والإقناع. وفي هذا المقال نتوقف عند البعد العميق: لغة الجسد بوصفها خطابا صامتا لكنه نافذ. فسمو ولي العهد لا يتحدث فقط، بل يصوغ حضوره خطابا بصريا متعدد الطبقات، تتداخل فيه تعبيرات الوجه، وإيماءات اليد، ونظرات العين، ونبرات الصوت، لتكون رسالة مركبة تتكامل فيها الصورة مع اللفظ والمعنى.
فإن سمو ولي العهد، لا يترك شيئا للصدفة في ظهوره العلني؛ فكل عنصر في تواصله - من جلسته وحتى هندسة ابتسامته - يخضع لبناء استراتيجي متكامل هنا، فاللغة المنطوقة لا تسير وحدها، بل تكتسب قوتها من جسد يوقع على المعنى، ومن حضور لا ينفصل عن المضمون. وهكذا، تتجلى عبقرية التأثير القيادي في أرقى صورها: حين يتكلم الجسد لغة القائد قبل أن يتكلم اللسان.
ففي اللقاء الشهير مع قناة (Fox News) الأمريكية، لم يكن سمو ولي العهد، مجرد متحدث سياسي، بل كان يجسد بنية كاملة من التناسق اللفظي وغير اللفظي، في أداء يعد نموذجا لما يسميه علماء الاتصال بـ»التموضع السيميائي للخطاب». فالمتلقي هنا لا يقرأ الكلمات فقط، بل يقرأ النظرات، والإيماءات، ونبرة الصوت، وتفاصيل الجلسة التي تشكل جميعها رسالة مركبة لا تقل بلاغة عن الكلمات.
وتشير دراسات علم النفس السلوكي، وعلم اللسانيات الجسدية إلى أن الرسائل غير اللفظية تشكل ما نسبته 93% من عملية التأثير: 38% منها لنبرة الصوت، 55% للغة الجسد، بينما لا تشكل الكلمات نفسها سوى 7%، والأخطر في هذه المعادلة أن الجمهور في حالة التضارب بين القول والجسد، يميل لتصديق الجسد. وفي هذا السياق تتجلى عبقرية سمو ولي العهد، في امتلاكه قدرة نادرة على التوفيق بين المظهر والمعنى.
في ذلك اللقاء، عندما سأله محاور قناة (Fox News) عن سر النجاح السعودي الذي يبهر العالم، أجاب سموه بجملة مقتضبة «ببساطة، لدينا في الماضي بعض القضايا، والكثير من الفرص التي لم نستغلها... ونحن نحاول الاستفادة منها». كانت الجملة دقيقة ومباشرة، لكنها لم تكن كل شيء، فقد كانت لغة الجسد وحدها تمثل نصا موازيا:
- جلسة الجسد: لم تكن جلسة سمو ولي العهد جلسة عفوية عابرة كما يفعل كثير من السياسيين تحت ضغوط الإعلام الغربي، بل جلس جلسة تعكس الثقة، والاتزان، والتقدير للذات وللآخر، وهي ما يسميه علماء الجسد بـ«جلسة الإدراك الملكي»، تلك التي تصدر من شخص تشكل في بيئة حاكمة ونشأ على ثقافة القيادة.
- ثبات اليدين: وضع سمو ولي العهد يده اليسرى فوق اليمنى بثبات فوق الركبتين، بسكينة ووقار، وهنا يتحدث علم النفس الجسدي عن دلالة الاستقرار الداخلي، وغياب الحركات العشوائية اللاواعية، مما يشير إلى حالة من التمكن العميق في الموقف. إنها رسالة من نوع خاص «أنا هنا لأنني أتقن ما أفعل، لا لأنني أقنع بما أقول فقط».
- نظرات العيون: توزيع نظراته لم يكن آليا أو مترددا، بل دقيق محسوب، يشي بقدرة فائقة على السيطرة على إيقاع المقابلة، وعلى توجيه انتباه المتلقي، ما يعكس ما يعرف في علم النفس التواصلي بمؤشر «المصداقية البصرية»، وهي القدرة على بناء ثقة لحظية عبر العين. حيث نجد انسيابية الملامح واتساع بؤبؤ العين عند لحظة الحديث عن التحول الكبير في المملكة، يتسع بؤبؤ العين، وتتطابق الابتسامة مع اللحظة، فيتشكل ما يسمى في علم السيمياء النفسية بـ»تزامن الرسائل»؛ أي أن تعبيرات الوجه تصبح مرآة صادقة للكلمات، وتسهم في بناء مثلث الإقناع: فكرة واضحة، وتعبير لفظي دقيق، وإشارة جسدية صادقة.
- الابتسامة: ابتسامة سمو ولي العهد لم تكن مجرد تقنية اجتماعية، بل ابتسامة صادقة ممتدة غير مصطنعة، تحمل في طياتها ارتياحا وصدقا، وتؤدي دورا نفسيا مهما فيما يسميه علماء النفس بـ»التقبل اللاواعي»، حيث يشعر المتلقي براحة وانفتاح نفسي نحو المتحدث، ويزيد من تقبله للرسالة حتى في حال الاختلاف معها.
نحن أمام قائد لا يتقن فقط ما يقول، بل يتقن كيف يقول، ومتى يقول، وبأي لغة جسد يحكي ويقول. وهنا تتكامل عناصر الإقناع الظاهري والحقيقي، ليصبح الخطاب أداة استراتيجية لا تنفصل فيها اللغة عن الجسد، ولا يفهم المعنى دون السياق البصري والشعوري الكامل. وبهذا، يعيد سمو ولي العهد، تعريف الاتصال السياسي في البيئة العربية، لا بوصفه تبليغا للمعلومة، بل بوصفه بناء للصورة، وترسيخا للهيبة، وتشكيلا واعيا للانطباع، وهي جميعا مفاهيم مركزية في دراسات الاتصال المعاصر وتحليل الخطاب القيادي. إننا بإزاء نموذج نادر لرجل دولة لا يخاطب العالم بالكلمات فقط، بل يخاطبه بكاريزما كاملة، تكتب وتقرأ وتلهم.