رقعة الشطرنج
الثلاثاء - 21 أكتوبر 2025
Tue - 21 Oct 2025
أتابع في الصباحات إحدى الإذاعات البريطانية التي تتميز بحواراتها الثقافية وأخبارها العامة، وخلال أحد تقاريرها ورد خبر عن وقف إطلاق النار في غزة، ذكر فيه المذيع أن إسرائيل فقدت 1,200 قتيل منذ السابع من أكتوبر 2023، واسترسل في عرض خسائر الجانب الإسرائيلي، دون أي إشارة إلى 68 ألف شهيد فلسطيني، حتى اليوم، بينهم 18 ألف طفل و12 ألف امرأة، وفق تقارير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
لم يفاجئني هذا التحيز، فالتجاهل المتعمد في التغطية الإعلامية الغربية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي أصبح نمطا واضحا. فبحسب تقرير الغارديان (ديسمبر 2023)، خلت 78% من التقارير الإخبارية الأوروبية من ذكر أعداد الضحايا الفلسطينيين. وهو ما ينسجم مع ما وصفه هيرمان وتشومسكي بـ"الضحايا الجديرين بالاهتمام"، أي إن الإعلام الغربي يمنح قتلى الحلفاء الغربيين مساحة أكبر من التعاطف، بينما يقلل من شأن معاناة من يقتلون على أيديهم أو أيدي حلفائهم. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود أصوات غربية ناقدة تناولت المعاناة الفلسطينية، وقدمت تغطيات نقدية لسياسات إسرائيل، وإن كانت لا تمثل التيار السائد.
وحين تهيمن الرواية الواحدة على الإعلام، يصبح التأثير في السياسة نتيجة حتمية لذلك؛ فاحتكار الصورة يمهد للسيطرة على القرار. يعزز ذلك النفوذ هيكل إعلامي تسيطر عليه ست مؤسسات ضخمة تتحكم في نحو 90% من المحتوى الإخباري الأميركي، بينما تكشف سجلات الكونغرس أن جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل أنفقت أكثر من 45 مليون دولار عام 2023 لتوجيه الخطاب الإعلامي. هكذا تمتد الهيمنة من الميكروفون إلى الميدان، في عالم أشبه برقعة شطرنج تتنازعه الأقطاب الدولية على أرض الشرق الأوسط.
ولنفصل في ذلك نقول: إن العالم منذ الحرب الباردة وخلال العقدين الأخيرين، شهد أكثر من 170 تدخلا مباشرا أو غير مباشر. نحو 60% منها بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وفق مراكز بحثية غربية ترصد العمليات العسكرية الدولية. وتشير البيانات الرسمية إلى أن واشنطن وحدها نفذت 251 تدخلا خارج حدودها بين 1991 و2022، معظمها تحت شعارات الحرية والديمقراطية، لتخدم حسابات النفوذ والمصالح. وتبرز حالات مثل غزو العراق عام 2003، دون العثور على أسلحة الدمار الشامل، والتدخل في ليبيا عام 2011 للإطاحة بالنظام والتأسيس لفوضى الميليشيات. أما الحرب في أوكرانيا، فتمثل صراع نفوذ أكثر من كونها مجرد معركة على السيادة، حيث تسعى روسيا لمنع تمدد الناتو، بينما يدفع الشعب الأوكراني الثمن.
فلماذا التدخل في شؤون الدول؟ وهل يمكن لنظام عالمي يقوده الأقوى أن يكون منصفا للأضعف؟ ولماذا توظف شعارات مثل نشر الديمقراطية كأدوات ناعمة لتبرير التدخل، بينما تكون المصالح الجيوسياسية هي المحرك الحقيقي؟ ما يجب إدراكه أن التأثير في سياسة الدول أصبح أداة راسخة لتقويض السيادة وتثبيت النفوذ، مهما تبدلت الشعارات أو الرايات. فقد ظل التاريخ يعيد المشهد ذاته منذ صلح وستفاليا عام 1648، الذي أقر مبدأ سيادة الدول، وتوالت الانتهاكات. من حروب الأفيون في الصين إلى تقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين، ثم انقلابات الخمسينيات في إيران وغواتيمالا. لتؤكد أن الشعارات تتبدل: نشر الحضارة، تنمية، ديمقراطية، أمن إقليمي، حرب على الإرهاب... لكن النتيجة معروفة: دول مهيمنة وطامعة تفرض إرادتها على الأضعف، سواء كانت بريطانيا، الولايات المتحدة أو روسيا، الصين أو إيران أو غيرهما.
وحين تتبدل أدوات السيطرة لتتخذ شكل الهيمنة المعاصرة، تبرز فزاعة الديون السيادية؛ فالقوة اليوم لم تعد عسكرية فحسب، بل مالية أيضا. إذ تمارس البنوك والمؤسسات الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي، نفوذها العميق عبر شروط الإقراض التي تكبل القرار الاقتصادي للعشرات من الدول.. وتشير تقارير دولية إلى أن نحو ثلاثة أرباع الدول النامية تخضع لضغوط المقرضين. فيما تبقى أفريقيا النموذج الأوضح على هذا النهب المغلف بثوب التنمية.
لا أحد ينجو بالبقاء ساكنا؛ فضعف أدوات التأثير في البيت العربي هو أصل العجز. العالم لن يحترم إلا من يملك قوة اقتصادية وتحالفات فاعلة. والطريق يبدأ من الداخل: ببناء اقتصاد متين وتفعيل أدوات الضغط المشروعة، لأن الاستقلال المالي أساس الاستقلال السياسي. نحن بحاجة إلى إعلام عربي موحد يقدم روايتنا بلغة دقيقة مدعومة بالأرقام، ويبني تحالفات متزنة مع شركاء دوليين تكسر احتكار السردية الواحدة على رقعة الشطرنج. لماذا لا نطبق مبدأ "المساءلة المماثلة" بمراجعة الشراكات مع المنظمات الدولية المنحازة؟ ولماذا لا نتحرك عربيا، وفق القوانين، لمحاسبة الانتهاكات في الساحات العالمية؟
قد يبدو هذا التصور مثاليا أو صعب التطبيق، خاصة في عالم تحكمه مصالح معقدة ودول تملك مفاتيح الاستقرار، غير أن السياسة، كما قال تشرشل، لا تعرف أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، بل مصالح دائمة. وفي النهاية، إن كانت المصالح هي التي تحدد المواقف، فطوبى لبلاد الحرمين ولمن يقف شامخا ليدافع عن القيم.
لم يفاجئني هذا التحيز، فالتجاهل المتعمد في التغطية الإعلامية الغربية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي أصبح نمطا واضحا. فبحسب تقرير الغارديان (ديسمبر 2023)، خلت 78% من التقارير الإخبارية الأوروبية من ذكر أعداد الضحايا الفلسطينيين. وهو ما ينسجم مع ما وصفه هيرمان وتشومسكي بـ"الضحايا الجديرين بالاهتمام"، أي إن الإعلام الغربي يمنح قتلى الحلفاء الغربيين مساحة أكبر من التعاطف، بينما يقلل من شأن معاناة من يقتلون على أيديهم أو أيدي حلفائهم. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود أصوات غربية ناقدة تناولت المعاناة الفلسطينية، وقدمت تغطيات نقدية لسياسات إسرائيل، وإن كانت لا تمثل التيار السائد.
وحين تهيمن الرواية الواحدة على الإعلام، يصبح التأثير في السياسة نتيجة حتمية لذلك؛ فاحتكار الصورة يمهد للسيطرة على القرار. يعزز ذلك النفوذ هيكل إعلامي تسيطر عليه ست مؤسسات ضخمة تتحكم في نحو 90% من المحتوى الإخباري الأميركي، بينما تكشف سجلات الكونغرس أن جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل أنفقت أكثر من 45 مليون دولار عام 2023 لتوجيه الخطاب الإعلامي. هكذا تمتد الهيمنة من الميكروفون إلى الميدان، في عالم أشبه برقعة شطرنج تتنازعه الأقطاب الدولية على أرض الشرق الأوسط.
ولنفصل في ذلك نقول: إن العالم منذ الحرب الباردة وخلال العقدين الأخيرين، شهد أكثر من 170 تدخلا مباشرا أو غير مباشر. نحو 60% منها بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وفق مراكز بحثية غربية ترصد العمليات العسكرية الدولية. وتشير البيانات الرسمية إلى أن واشنطن وحدها نفذت 251 تدخلا خارج حدودها بين 1991 و2022، معظمها تحت شعارات الحرية والديمقراطية، لتخدم حسابات النفوذ والمصالح. وتبرز حالات مثل غزو العراق عام 2003، دون العثور على أسلحة الدمار الشامل، والتدخل في ليبيا عام 2011 للإطاحة بالنظام والتأسيس لفوضى الميليشيات. أما الحرب في أوكرانيا، فتمثل صراع نفوذ أكثر من كونها مجرد معركة على السيادة، حيث تسعى روسيا لمنع تمدد الناتو، بينما يدفع الشعب الأوكراني الثمن.
فلماذا التدخل في شؤون الدول؟ وهل يمكن لنظام عالمي يقوده الأقوى أن يكون منصفا للأضعف؟ ولماذا توظف شعارات مثل نشر الديمقراطية كأدوات ناعمة لتبرير التدخل، بينما تكون المصالح الجيوسياسية هي المحرك الحقيقي؟ ما يجب إدراكه أن التأثير في سياسة الدول أصبح أداة راسخة لتقويض السيادة وتثبيت النفوذ، مهما تبدلت الشعارات أو الرايات. فقد ظل التاريخ يعيد المشهد ذاته منذ صلح وستفاليا عام 1648، الذي أقر مبدأ سيادة الدول، وتوالت الانتهاكات. من حروب الأفيون في الصين إلى تقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين، ثم انقلابات الخمسينيات في إيران وغواتيمالا. لتؤكد أن الشعارات تتبدل: نشر الحضارة، تنمية، ديمقراطية، أمن إقليمي، حرب على الإرهاب... لكن النتيجة معروفة: دول مهيمنة وطامعة تفرض إرادتها على الأضعف، سواء كانت بريطانيا، الولايات المتحدة أو روسيا، الصين أو إيران أو غيرهما.
وحين تتبدل أدوات السيطرة لتتخذ شكل الهيمنة المعاصرة، تبرز فزاعة الديون السيادية؛ فالقوة اليوم لم تعد عسكرية فحسب، بل مالية أيضا. إذ تمارس البنوك والمؤسسات الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي، نفوذها العميق عبر شروط الإقراض التي تكبل القرار الاقتصادي للعشرات من الدول.. وتشير تقارير دولية إلى أن نحو ثلاثة أرباع الدول النامية تخضع لضغوط المقرضين. فيما تبقى أفريقيا النموذج الأوضح على هذا النهب المغلف بثوب التنمية.
لا أحد ينجو بالبقاء ساكنا؛ فضعف أدوات التأثير في البيت العربي هو أصل العجز. العالم لن يحترم إلا من يملك قوة اقتصادية وتحالفات فاعلة. والطريق يبدأ من الداخل: ببناء اقتصاد متين وتفعيل أدوات الضغط المشروعة، لأن الاستقلال المالي أساس الاستقلال السياسي. نحن بحاجة إلى إعلام عربي موحد يقدم روايتنا بلغة دقيقة مدعومة بالأرقام، ويبني تحالفات متزنة مع شركاء دوليين تكسر احتكار السردية الواحدة على رقعة الشطرنج. لماذا لا نطبق مبدأ "المساءلة المماثلة" بمراجعة الشراكات مع المنظمات الدولية المنحازة؟ ولماذا لا نتحرك عربيا، وفق القوانين، لمحاسبة الانتهاكات في الساحات العالمية؟
قد يبدو هذا التصور مثاليا أو صعب التطبيق، خاصة في عالم تحكمه مصالح معقدة ودول تملك مفاتيح الاستقرار، غير أن السياسة، كما قال تشرشل، لا تعرف أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، بل مصالح دائمة. وفي النهاية، إن كانت المصالح هي التي تحدد المواقف، فطوبى لبلاد الحرمين ولمن يقف شامخا ليدافع عن القيم.