وظيفة المرمطون تمثلت بيننا
الاثنين - 20 أكتوبر 2025
Mon - 20 Oct 2025
مفردة اختفت منذ عصر جحا، ولكنها اليوم تعود في صورة جديدة، فكانت تمثل في التاريخ الشخص الجاهل عديم الحرفة والقدر والحيلة يُستغل للقيام بالأعمال المهينة والمذلة نيابة عمن يحركونه بأموالهم، وسط مرارة، وذل استغلال.
واليوم نجد هذه الصورة تعود للواجهة بوجه مختلف الملامح، ولكن جوهرها لم يتغير كثيرا، نجدها في بعض الوظائف داخل شركات القطاع الخاص، حيث يستخدم الموظف السعودي الشاب، وغالبا الشابة رخيمة الصوت مِرمَطون، دون قيمة وكرامة.
موظفات في مكاتب أنيقة ظاهرا، يجلسن بالعشرات خلف شاشات مضيئة وسماعات معلقة بآذانهن، يجرين سلسلة لا تنتهي من الاتصالات العشوائية بكل من هب ودب.
الهدف المعلن، هو التسويق لمنتجات، أو إشهار عروض، أو تخفيضات أو خدمات.
والواقع: وظيفة مرمطة مرهقة، تلتهم أعصاب الموظفة وتضعها في مواجهة مباشرة مع ألسنة مجتمع لم يعد يطيق هذه المكالمات المزعجة.
المواطن الذي يتلقى الاتصال يكون في عمله أو ساعات راحته أو في زحمة طريقه غير مكترث بالعروض والمنتجات، فينفجر غاضبا، ويغلق السماعة في وجهها، أو يتنمر ويشتم، أو يتهكم ويخدش الحياء طلبا للتسلية.
وفي واجهة مختلف هذه الردود، تقف الموظفة الصغيرة مجردة من إنسانيتها، واقفة في خانة المرمطون الذي لا يحميه أحد.
الأدهى أن هذه الوظائف مرصودة الأداء، فيتم مراقبة الإنتاجية فيها مكالمة بمكالمة، وكل كلمة محسوبة ومسجلة، وكل تجاوز بحسم، وكل نسبة نجاح أو فشل مرصودة على شاشات المديرين.
عمل عبودية وسخرية، فلا فرصة للإبداع، ولا مزاولة للعمل الحقيقي، بل تلافي ضغوط متواصلة تقود الموظفة إلى الكآبة والشعور باللاجدوى وانكسار الثقة بالنفس.
إنها وظيفة بلا هوية، لا تضيف شيئا لمسار الموظفة المهني، بل تسرق أجمل سنواتها في نفاق ومجاملات وتكرار رتيب لا يثمر غالبا إلا بالإهانة.
من ناحية الشركات، فقد حققت رغبة الحكومة بتوظيف السعوديات، وإداراتها تظن بأنها تفيد الوطن بخلق المرمطونات.
لكنها في الحقيقة تخسر أكثر مما تربح، إذ يترسخ في ذهن المواطن أن هذه الكيانات مجرد مصادر إزعاج، وأنها تستغل أصوات بنات صغيرات لتحقيق أرباح سريعة.
ولعل المرمطة تكون أوضح عند بعض البنوك وشركات التمويل بتكليف البنات لملاحقة عملائها منذ منتصف الشهر يطالبونهم بدفع القسط، رغم أن العقود تنص على أن الاستحقاق يكون في نهاية الشهر.
وهكذا تتحول الموظفة المرمطون، إلى حاجز بشري بين الشركة والمجتمع، تتلقى الضربات مكانها، وتستباح كرامتها في سبيل تحصيل حاصل.
إن ما يجري يستدعي تدخلا رسميا عاجلا من وزارة التجارة، ووزارة الموارد البشرية لوضع حد لمثل هذه الممارسات، لا عبر المنع فقط، بل من خلال خلق بدائل لعمليات التسويق، وتدريب الكوادر الوطنية على أعمال فعالة تحفظ كرامتهم وترفع من مستواهم المهني.
فليس من المقبول أن يتحول الشباب أو الشابات السعوديون إلى «مرمطون» عصري يلهث لسانه خلف مواجهة أرقام وشخوص غاضبين، فيما تكون تخصصاتهم وشهاداتهم مركونة على الرف.
يفترض أن تكون وظائف الشباب تدريبا وتهيئة لتولي أعمال الشركات الحساسة والتخصصية مستقبلا، وعملية محافظة على كرامة وهوية الموظف حين يتمثل صورة الوطن ومستقبله، ولا يجوز أن يستغل بهذه الطريقة المهينة، ولا يجد من يحميه.