عبدالله قاسم العنزي

كيف يخسر التاجر قضيته رغم أنه كان على حق؟

الأحد - 19 أكتوبر 2025

Sun - 19 Oct 2025

كان "سالم" شابا طموحا فتح متجره الالكتروني بشغف كبير، يبيع منتجات عطرية بنَفَس عربي أصيل. لم يلتفت في البداية إلى ما يسميه الآخرون "إجراءات نظامية"، فهو يظن أن النجاح في السوق يقاس بالربح لا بالأوراق. كان يبيع، ويعلن، ويتعامل بثقة مع الزبائن، حتى ظن أن الصدق وحده كاف ليكسب احترام النظام.

لكن حين نشب خلاف بينه وبين أحد الموردين، اكتشف أن السوق لا يرحم من يجهل القانون. دخل المحكمة التجارية محملا بفواتير وإثباتات، لكنه خرج منها محملا بدرس لا ينسى. فالقانون - كما أدرك - لا يحمي من لا يعرف حدوده.

في أول جلسة، سأله القاضي بهدوء "هل أنت مقيد في السجل التجاري؟". ارتبك سالم وقال بثقة غير واثقة "أنا أعمل منذ ثلاث سنوات والكل يعرفني". ابتسم القاضي وقال "لكن النظام لا يعرفك يا سالم". ثم قرأ عليه نص المادة (5) من نظام السجل التجاري التي تنص على أن "كل تاجر يجب أن يقيد نفسه في السجل التجاري قبل ممارسة أعماله التجارية". شعر سالم حينها بأن القانون يتحدث بلغة لا يفهمها. كان يظن أن العدالة ترى النية، لكنها في النظام لا ترى إلا القيد الرسمي. أدرك متأخرا أن المشروعية تسبق الصدق في عالم التجارة.

خسر سالم القضية رغم وضوح الحق في فواتيره. فالقاضي لم يشكك في أمانته، بل في صفته القانونية. وبحسب المادة (17) من النظام، "تعد البيانات المقيدة في السجل التجاري حجة للتاجر أو عليه، ولا يجوز الاحتجاج على الغير بأي بيان لم يقيد أو يحدث". لم يكن سالم مقيدا أصلا، فكيف يحتج بحقوقه كتاجر؟ لم يكن أمام المحكمة إلا أن تعتبره شخصا عاديا باشر نشاطا تجاريا بلا ترخيص نظامي. خرج سالم وهو يهمس "أنا تاجر بجهدي، فلماذا لا يراني النظام كذلك؟". والجواب ببساطة أن النظام لا يرى إلا من كتب اسمه في صفحاته.

في اليوم التالي، قرر أن يصحح خطأه، فذهب إلى وزارة التجارة ليقيد متجره رسميا. لكن المفاجأة كانت أن أحد منافسيه سبقه وسجل الاسم نفسه. حاول الاعتراض، فقيل له بلطف قانوني "الاسم التجاري أصبح محجوزا". أدرك حينها أن السوق لا ينتظر المتأخرين، وأن الزمن في عالم الأنظمة يقاس بالأسبقية لا بالأمنيات. حاول تغيير الاسم، لكن هوية متجره التي عرفها عملاؤه ضاعت بين الحروف الجديدة. كان درسا آخر يكتب بلغة النظام: أن التأخير في القيد يكلفك أكثر مما تظن.

في جلسة مراجعة لاحقة، نصحه أحد المحامين بأن القيد ليس مجرد إثبات للنشاط، بل حماية قانونية. فالمسجل في السجل التجاري يعامل كتاجر كامل الحقوق، بينما غير المسجل يعامل كمن يعمل في الظل. وشرح له أن تحديث البيانات جزء من المشروعية المستمرة، مستشهدا بنص المادة (10) من النظام "يجب على التاجر عند حدوث أي تغيير أو تعديل على البيانات المقيدة أن يحدثها خلال خمسة عشر يوما". أي إن القيد لا يكفي مرة واحدة، بل هو علاقة متجددة مع النظام، تماما كالثقة بين التاجر وزبونه.

بدأ سالم ينظر إلى النظام نظرة مختلفة. لم يعد يراه خصما، بل شريكا في النجاح. فالقوانين ليست قيودا، بل جدران أمان تحفظ السوق من الفوضى. أدرك أن النظام لا يطلب منه إلا أن يعلن وجوده بوضوح، وأن يحدث بياناته كما يحدث واجهة متجره. فالسجل التجاري ليس ورقة تعلق على الحائط، بل هو صوتك النظامي أمام الدولة والمجتمع. من يلتزم به يكتسب الاحترام والثقة، ومن يهمله يترك نفسه عاريا أمام النزاعات.

حين عاد إلى متجره، كتب على مدخل الموقع الالكتروني عبارة جديدة:

"نحن مؤسسة سعودية مسجلة رسميا في السجل التجاري".

كانت الجملة قصيرة، لكنها تحمل تاريخا من الوعي القانوني. بدأ عملاؤه الجدد يثقون به أكثر، وتعاونت معه جهات رسمية بسهولة، وفتح له البنك حسابا تجاريا بلا عراقيل. لقد تعلم أن النظام ليس خصما، بل حليف يحمي من الضعف والتردد. أصبح يحدث بياناته بدقة، ويحتفظ بنسخة الكترونية من قيده كما يحتفظ بأسرار تجارته.

في نهاية القصة، وقف سالم أمام متجره وقال "كنت أبيع دون هوية، واليوم صار اسمي قانونا يحميني". فهم أن الحق وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون منضبطا بالنظام. فالمادة (2) من النظام تقول "يهدف النظام إلى تنظيم إجراءات القيد وتيسير ممارسة الأعمال مع ضمان الشفافية والموثوقية". هذه ليست جملة بيروقراطية، بل ميثاق شرف للتاجر الشريف. والرسالة التي خرج بها سالم تليق بكل رائد أعمال: لا تنتظر أن تقع في الخطأ لتتعلم النظام، بل اجعل النظام هو أول خطوة في طريق النجاح.