عبدالخالق المحمد

كل الطرق تنتهي إلى القرآن

الأحد - 19 أكتوبر 2025

Sun - 19 Oct 2025

في آخر العمر... حين تنكسر حدة الاندفاع، ويصفو نظر القلب، ويهدأ ضجيج الحياة، وتنطفئ شمعة الشباب ويشتعل الرأس شيبا مؤذنا بدنو الرحيل... تتكلم النهايات بصدق لا تعرفه البدايات. هناك، عند تخوم العمر، يفتضح زيف الطرق، وتسطع الحقيقة العارية: أن القرآن هو الطريق.

ها هو خالد ابن الوليد سيف الله المسلول، الذي دوت سنابك خيله في ميادين الفتح، وارتجت أمامه قلاع الشرك، ها هو عند غروب شمس حياته يحتضن المصحف، ويهمس بدمعة العارف "شغلنا عنك الجهاد". أي يقين هذا الذي يجعل بطل المعارك، وقائد الجيوش، يلوذ بورق المصحف في لحظة الختام؟ إنها شهادة رجل رأى الدنيا كلها، فلم يجد مأمنا أصفى من كتاب الله.

ثم هذا سفيان الثوري، إمام أهل الحديث، بحر العلم والورع، الذي جال بين صحائف السنن وميادين الرواية، يقول في كبره، وهو المجبول على الصدق «ليتني اقتصرت على القرآن».

كلمة تقال بعد عمر طويل من العلم والجد... لكنها تخرج كخلاصة نضج لا يخطئ وجهه: أن الاشتغال بالقرآن أصل، وما سواه فرع، ومن رام النبع فليدع الحواشي.

وهذا ابن تيمية، جبل العلم، ورائد الفكر، وأحد أوسع الناس نظرا في الشرع والعقل معا، يعترف في أواخر أيامه بندم يقطر حكمة: لقد ضيع كثيرا من وقته في غير معاني القرآن.

فإذا كان هذا الإمام، الذي زلزلت كلماته عروش الجدل، قد رآه أعظم زاد في ختام الرحلة... فكيف بمن لم يقطع عشر معشاره؟

بل حتى أولئك الذين قدسوا العقل، وخاضوا بحار الفلسفة والكلام، وأطالوا الوقوف على أبواب الجدل، نطقوا بعد التجربة بما يغني عن كل تفلسف "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

أي بيان أصدق من بيان من ذاق، وأي شهادة أعظم من شهادة من جرب؟

لقد جالوا في مدائن الفكر، وخاضوا متاهات العقول، ثم عادوا إلى السورة التي كنا نحفظها صغارا (الإخلاص) إلى الكلمات التي يتلى بها في المحاريب.

إنها سنة الله في العقول والقلوب: أن كل طريق مهما بدا مضيئا... ينتهي إلى عتبة القرآن.

وأن كل فكر مهما حلق في فضاء المنطق... يهبط في النهاية عند آياته، وتنوخ ركائبه عند إعجازه.

وأن كل باحث عن الحق، إذا صدق، وجد نفسه في حضرة هذا الكتاب.

فما أعقل من بدأ من حيث انتهى أولئك العظام... وما أحمق من أعاد التيه بعد أن بين له السبيل.

ليس من الحكمة أن تجرب الطريق بعد من جربه قبلك، ولا أن تغوص في بحار قد خاضها من هو أعلم وأذكى وأورع، ثم عاد منها خالي الوفاض إلا من يقين: أن أقرب الطرق، بل أصدقها، طريق القرآن.

فيا أيها السائر في بداياتك... الزم القرآن، ففيه علم يغنيك عن كل جدل، ونور يغنيك عن كل فلسفة، وبصيرة تسبق العقول إلى الحق.

منه تبدأ... وإليه تنتهي. ومن اتخذه إماما، لم يضل ولم يظمأ. وقد مضت سنة الله أن من أعلى أي سلطان على سلطان القرآن فإنما يقود نفسه وأتباعه في دنياهم إلى أودية الضلال ومشارب الخبال وفي الآخرة إلى بئس المآل.

وفي الختام إن أصدق النصيحة لك: ابدأ من القرآن... قبل أن تنتهي إليه.

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).