عمر العمري

الفكر والرأي سلم بدم بارد للتواصل الاجتماعي

الأحد - 19 أكتوبر 2025

Sun - 19 Oct 2025



من الواضح أننا بدأنا نتجرع ويلات وإرجاف المؤثرين والمشاهير وغيرهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وما نشاهده اليوم من فوضى عارمة في عشوائية تضليل الأمور، وشحن العواطف، وتوجيه الجماهير نحو قضايا وموضوعات معينة (وقد تكون في بدايتها شرارة لمطلب اجتماعي حقيقي وبسيط لفئة محددة).

لكن الوضع أصبح أكثر خطرا من ذي قبل، وإن كنا اليوم قد استطعنا احتواء بعض الهجمات، فإن الغد قد يحمل عواقب وخيمة على قيمنا وثوابتنا الوطنية.

الأمر أشبه بفكرة شيطانية ترمى «ككرة» في هذا الفضاء المفتوح، فيلتقفها «الجاهل، والصغير، والحاسد، والحاقد، والمغفل، والمتعاطف»، وكلنا ذاك الشخص الذي يتعاطف مع أي قضية إنسانية لكن أين الوعي والعقل، وقد يكون من بين أبنائنا من يلهثون خلف الشائعات والمشاهدات وعدد المتابعين، وبهذا التوجه يهمش العقل، ويكرم الصاخب، وتستبدل الكلمة الهادفة بالمحتوى السطحي.

هؤلاء المشاهير والمؤثرون لسنوات طويلة، وما زالوا، يتم تصديرهم للمشهد وإبرازهم من قبل التجار والقطاعات الخاصة، وحتى بعض الجهات الحكومية، زعما منهم أن ذلك هو الطريق الصحيح للوصول إلى الجماهير والشباب، وقد يقدمون في المقاعد الأمامية في المناسبات والاحتفالات، وتتهافت بعض البرامج الحوارية والاجتماعية في القنوات الفضائية على استضافتهم - أحيانا بمقابل مادي - وإبرازهم للحديث عن «قصص نجاحهم» وإبداء آرائهم في قضايا المجتمع وهمومه بكلام هزيل، وكأنهم قدوات وأصحاب فكر ورأي! (ما هكذا يا سعد تورد الإبل)

جلسوا في مقاعد ليست لهم، «والله إنه لأمر مبك ومضحك في الوقت نفسه»، وها نحن اليوم نتجرع ويلات هذا الأمر، في ظل ضحالة تفكيرهم ومستواهم التعليمي والثقافي، وغرورهم بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من خلال منصاتهم قادرون على طرح أو نقاش أي موضوع أو شأن اجتماعي دون علم أو ثقافة أو وعي لمآلات الأمور أو أطر اعتبارية.

لقد غلبت مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، وصاروا يصدرون التفاهات، ويعرضون حياتهم الشخصية المليئة بالماديات والكذب والتضليل، حتى سطحوا تفكير المجتمع، وأصبحوا سادة الساحات في مواقع التواصل الاجتماعي، وصناعا للرأي العام، وهنا قد ينشأ الاختلاف، أو يمس ثابت وطني أو توقظ قيمة اجتماعية سامية، وقد تتحول كلمة أو مقطع قصير إلى شرارة تشعل جدلا واسعا في أطياف المجتمع.

في المقابل، وعلى مدى السنوات ذاتها، تجاهلنا المفكرين وكتاب الرأي الأفذاذ والمثقفين، الذين هم قناديل مضيئة للمجتمع والوطن، وتركناهم يواجهون مصيرهم في الاضمحلال أمام تحديات الحياة وانشغالاتها، دون دعم مادي أو معنوي من تلك المؤسسات الإعلامية والثقافية.

قيل لهم إن «الوقت لم يعد لكم»، ولعلها كانت فرصة للبعض من الجهات والمسؤولين «للاستراحة» من مقترحاتهم ونقدهم البناء المتوازن، وإن كان مؤلما أحيانا، لكنه كان الصوت الحصيف الذي يمثل ضمير المجتمع ووعيه الحي، الذي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح بأسلوب أدبي ووطني متزن.

إن تجاهل الفكر والنقد الحقيقي من كتاب الرأي يجعل المجتمع أكثر عرضة للتضليل، لأن غياب الأصوات الواعية يفتح المجال أمام التوجيه العاطفي والانفعالي، بدلا من النقاش المنطقي والتفكير الواعي.

وبالتالي، يصبح من السهل توجيه الجماهير نحو قضايا هامشية وصرف انتباههم عن مشكلاتهم الأساسية، كالتعليم، والعمل، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الفكرية.

أعتقد أن الوقت قد حان لإنعاش من بقي من أصحاب الفكر والرأي، وأن نعيد الكاتب الأصلي إلى مقعده الأصلي، وأن نعيد الاعتبار لصوت المثقف والمفكر وكتاب الرأي للحديث أكثر عن المجتمع وقضاياه وهمومه، فهم صمام الأمان في زمن الفوضى الرقمية.