جمال القعبوبي

العقل الاستراتيجي، والذكاء التواصلي... لسمو ولي العهد

الخميس - 16 أكتوبر 2025

Thu - 16 Oct 2025


ليس غريبا أن تتحول لحظة عابرة في لقاء رسمي إلى درس في فنون الخطاب السياسي والذكاء التواصلي، حين يكون المتحدث هو الأمير محمد بن سلمان.

وجدير برجالات الإعلام، ومهندسي الخطابات واللسانيين أن يستلهموا من خطابات سمو ولي العهد أدوات متعددة لكيفية قراءة المواقف وتوظيفها، وبناء خطاب محكم، ففي لقاء مباشر لزيارة رئيس روسيا الاتحادية، للمملكة العربية السعودية، ولقائه بسمو ولي العهد، يذكر بوتين أن الاتحاد السوفيتي أول دولة اعترفت باستقلال المملكة العربية السعودية قبل حوالي (100 سنة)، فقاطع سمو ولي العهد المترجم في اللحظة نفسها مصوبا له بقوله «السعودية لم تستقل في ذلك الوقت، السعودية أعيد توحيدها، السعودية لم تكن مستعمرة قبل في التاريخ».

يجسد هذا الموقف مثالا نموذجيا لما يعرف في علم تحليل الخطاب بـ«الذكاء التواصلي»، حيث تميز سمو ولي العهد بسرعة التقاط دلالة مخفية داخل السياق، قد تمر على كثير من المتابعين دون انتباه. ظاهر عبارة بوتن يحمل المجاملة، لكنه يتضمن ضمنيا ما قد يفهم على أنه منة تاريخية، أو إيحاء غير مباشر بأن المملكة كانت خاضعة لقوة استعمارية، وهو ما لا يتسق مع الحقيقة التاريخية. ورد سمو ولي العهد لم يكن مجرد تصحيح لغوي، بل كان تدخلا تداوليا مدروسا، حقق فيه عدة وظائف اتصالية في آن واحد: تصحيح المعلومة، وتوضيح السيادة، وحفظ ماء وجه المتحدث، وتفكيك الحمولة الأيديولوجية غير المعلنة في الخطاب.

وهنا يبرز المحلل اللساني كيف أن المقاطعة لم تكن خروجا عن اللياقة، بل كانت استجابة تداولية ذكية وفق مبدأ «الوجه» (Face) في نظرية براون ولينڤسون، حيث حافظ سموه على الوجه الإيجابي للمتحدث، فلم يحمله الخطأ مباشرة، بل نسبه إلى الترجمة، وحمله على عدم الجدال فيه بهذه اللياقة العالية والفطنة ومراعاة وجه الآخر، وهذا يطلق عليه عند التداوليين ومحللي الخطاب مبدأ التأدب، ومنه قاعدة التودد؛ لتظهر الود لمن تخاطبه وفي الوقت نفسه أبعد «الوجه السلبي» بعدم تمكين الطرف الآخر من فرض إيحاء مغلوط عن تاريخ المملكة.

هذا النوع من التعامل الاتصالي يعكس وعيا عميقا بما يسمى في نظرية التواصل بـ»رجع الصدى»، أي تأثير الرسالة على المتلقي وكيفية تعديلها لحظة بلحظة، وفق ما يظهر من تعبيرات الطرف الآخر، أو مناخ الحوار. لم يكن سمو ولي العهد في هذا الموقف مجرد متلق بل متحدث ومفسر وموجه للخطاب؛ وبهذا يتجلى دوره القيادي لا فقط في اتخاذ القرار السياسي، بل في قيادة الحضور الرمزي واللغوي للأمة.

وفي كلمة سموه حول رؤية السعودية 2030 تتجلى سمات أخرى من البلاغة السياسية والاقتصادية، ومنها قوله «نريد أن نحول أرامكو من شركة لإنتاج النفط إلى عملاق صناعي يعمل في أنحاء العالم، ونحول صندوق الاستثمارات العامة إلى أكبر صندوق سيادي في العالم، وسنحفز كبريات شركاتنا السعودية لتكون عابرة للحدود».

هذه العبارات تحمل دلالات عميقة من حيث لغة الخطاب، وتكشف عن عقل تخطيطي لا ينطلق من فراغ، بل من رؤى مؤسسة على خطوات عملية. وأول ما يلفت النظر لغويا هو هيمنة توظيف الفعل المضارع المبني للمعلوم في الخطاب، وهي سمة لسانية تشير إلى حضور المتحدث بقوة في سياق الحدث، وتفصح عن إيمان صريح بالفعل المباشر دون وسائط مبهمة، أو التواء في الإسناد. وقد تجنب سموه تماما استخدام الفعل الماضي، أو الفعل المبني للمجهول، وهي استراتيجية خطابية تعكس سيطرة كاملة على مضمون الرسالة، وثقة عالية في المسارات المستقبلية للرؤية.

أما من ناحية البنية التركيبية، فقد جاءت جميع الجمل مركبة ممتدة، مما يدل على أن المتكلم لا يلقي عبارات إنشائية، بل ينسج خيوطا من المعاني المتداخلة التي تدعم الهدف الاتصالي للخطاب؛ فهذا الاستخدام يعبر عن سعة الفكرة، وترابط مفاصل المشروع، ويساعد على بناء خطاب متماسك ومقنع، يتدرج فيه المعنى من فكرة لأخرى بانسيابية تامة. إضافة لذلك، فإن كثافة أدوات الربط - مثل: (و)، (لكي)، (لن)، (وفي الوقت نفسه) - تسهم في تقوية تماسك الخطاب وتوحيد أجزائه.

ومن زاوية أخرى، تكشف المفردات المستخدمة عن قاموس لغوي خاص لسمو ولي العهد، تنتقى فيه الكلمات بعناية؛ لتعبر عن الرؤية لا فقط بالمعنى، بل بالإيحاء، والقوة، وظهر الفخار بما تم من إنجاز، فكلمات مثل: (عملاق)، (نحول)، (نحفز)، (ثروتنا)، (جيشنا قوي)، كلها تدفع المخاطب لتلقي الرسالة بإحساس القدرة والانطلاق، لا بالتردد أو الانتظار. وفي علم الإعلام تسمى هذه اللغة بـ»اللغة الحشدية»، وهي لغة تستخدم لحشد الرأي العام نحو أهداف معينة، لكنها هنا لا تقوم على الشعارات، بل على مشروع واضح قابل للتنفيذ.

وتجدر الإشارة إلى أن ضمير «نحن» الحاضر بكثافة في الأفعال (نريد، نشجع، نصنع، نستثمر...) لا يعبر عن سلطة المتحدث، بقدر تعبيره عن شعوره بالانتماء الجمعي لأبناء الوطن السعودي، فهو يقود المشروع، لكنه أيضا أحد أبناء هذا الوطن. وهذا الدمج بين «ضمير القيادة» و»ضمير الجماعة» هو ما يجعل الخطاب السياسي لسموه خطابا جامعا محبوبا مؤثرا صادقا، لا نخبويا، ويكسبه بعدا وطنيا شاملا.

نحن أمام شخصية ملهمة تجمع بين العقل الاستراتيجي والبلاغة الوظيفية، وبين الدقة اللسانية والنباهة التداولية. في خطاب لا ينقل موقفا فحسب، بل يشكل وعيا ويصنع أثرا، ويحدث تحولا في نظرة المتلقي إلى ذاته ووطنه؛ فعبر كلمات مدروسة رسم سمو ولي العهد صورة متكاملة لخطاب الدولة الحديثة: خطاب يرفض الانقياد للمجاملات التاريخية، ويدافع عن الهوية بهدوء وثقة، ويقود مشروع النهضة بشفافية، وقدرة على الإنجاز.