شاهر النهاري

دقائق ما قبل الركام

الثلاثاء - 14 أكتوبر 2025

Tue - 14 Oct 2025


الدنيا مكان نموذجي للعبرة والتفكر ومحاولات تخيل ارتداء حذاء الغير، وسؤال النفس: ماذا لو كنت أنا؟

وما شاهدناه في مأساة غزة الأخيرة، والتي لم تكن الأولى مجرد حرب في مدينة محاصرة، بل مختبر وعي إنساني واختبار لأقصى حدود الوجع.

غزة مكان لم تكن المسافة فيه بين الحياة والموت تتجاوز بضع ثوان، بين حرص وتهور يدفعه الخوف، ومناظر معقدة يتعلم منها الناس كيف يختصرون وجودهم في حقيبة صغيرة، وكيف يتركون وراءهم ذاكرة بيت سيتحول بعد لحظات إلى غبار.

حين يأتي الإنذار، لا وقت للخوف والحسرة والبكاء. فالزمن هناك يقاس بعدد الأنفاس، وكل ثانية تهب أو تختصر عمرا.

يقف الغزاوي أمام التهديد بهدم منزله كمن يقف أمام قبر محفور سلفا، وعسى أنه قد عرف ذلك مسبقا، وتصرف وجهز، واختار ما يمكن وما يجب أن يرافقه إلى المجهول، مال قليل قد يشتري حياة، أوراق تثبت أنه كان يوما إنسانا له عنوان، شهادات دراسية أو مهنية لعلها تفتح له بابا في بلد بعيد.

ثم ما كنزه طوال عمره، شيء من الذهب، بعض الملابس، زجاجة ماء، رغيف، سجادة، ولن يقف طويلا أمام ذكريات يشعر بعظم قيمتها، لكن سيظل حملها في القلب، وبين أجفان لا تحيط بحجم الفاجعة.

في هذه اللحظات القصيرة، يتجرد الإنسان من مظاهر الترف، ويتعلم فلسفة الوجود في أنقى صورها: فماذا تعني «الملكية» عندما يهدم البيت؟ وماذا تعني «الكرامة» حين تضطر للهروب منها لتحافظ عليها؟

غزة تكشف لنا، نحن المشاهدين من خلف الشاشات، خواءنا العاطفي، وسذاجة أمننا، إذ نحيا مطمئنين بينما هناك من يختصر العالم في خمس دقائق بين إنذار وصاروخ ودمعة تتحجر بالغبار.

تلك الدقائق هي درس في إعادة ترتيب الأولويات. فبينما تمحى المدن وتكسر الأبواب، يولد وعي جديد بالزمن والمعنى.

الإنسان هناك لا يجمع مقتنياته، بل يجمع رموزه وشرايين تستعيد نبضها: وثيقة تضمن البقاء، قطعة من الذاكرة، وماء يروي الجسد حتى إشراق جديد لا يعرف متى يأتي.

إنه لا يهرب من بيته فحسب، بل يهاجر من زمن إلى آخر، من حياة إلى نجاة مؤقتة.

المشهد الغزي ليس مشهد حرب فحسب، بل اختبار فلسفي للوجود الإنساني.
كل بيت يقصف يطرح سؤالا وجوديا: ما الذي يبقى من الإنسان حين يسلب كل ما يملك؟

وفي غزة، الجواب لا يقال بل يعاش، حين يصبح الحلم عملة نادرة، والوقت نعمة مهددة، والموت جار سوء يتربص.

إنها لحظة تكثف فيها التاريخ والمأساة، لحظة تفصل بين ما يمكن إنقاذه وما يترك للعدم نظير العجز عن الوفاء.

وربما لهذا السبب، حين ينزل الغزاوي سلالم بيته للمرة الأخيرة، لا يحمل معه الخوف منفردا، بل وعيا حادا بأن ما يهدم أمامه ليس الجدران وحدها، ولكن وهم الاستقرار الذي يظنه العالم حقا مكتسبا.

في غزة، يصاغ الإنسان من جديد.

يخرج من الركام لا بوصفه ناجيا، بل شاهد على إعجاز البقاء.

وكل دقيقة حياة تشترى بأقصى القهر والحسرات والمعاناة، وكل بيت يهدم يضيف سؤالا آخر إلى ضمير العالم: فكم يحتاج الإنسان من الخراب كي يدرك قيمة بيته، ووطنه، وكرامته؟

shaheralnahari@