العمران الروحي والوجداني
السبت - 11 أكتوبر 2025
Sat - 11 Oct 2025
قال الدكتور حسن قارئ في محاضرة مقرر 322 تخط: مراحل تخطيط المدن، قبل حوالي 26 عاما، إن الاستراتيجية تعد بمثابة «توجه عام على مدى طويل قد يصل إلى يوم القيامة مبني على معرفة البنية الداخلية والخارجية للموضوع التخطيطي..» في تلك الفترة كنا ندون هذه المفاهيم والأفكار في كراسة المحاضرات وربما لم نستوعبها تماما لأبعادها الفلسفية العميقة.
اليوم، وبعد اختزال الخبرة التراكمية في المجال أستطيع القول إن مضمون فكرة الخطة التي تمتد إلى يوم القيامة، والتي طرحها الدكتور قارئ تعد واحدة من المفاهيم الفلسفية العميقة في الفكر العمراني المعاصر. ففي حين يرى التخطيط الحديث أن الخطة طويلة المدى تحدد عادة ضمن إطار زمني يتراوح ما بين 20-30 عاما، فإن الدكتور قارئ يتجاوز هذا البعد الزمني إلى ما يمكن وصفه بـ»البعد الحضاري» الذي يشير إلى الحضور والمنجز الإنساني. وغني عن البيان، فالمعنى المقصود لا يرتبط بخطة زمنية تمتد بلا نهاية؛ بل برؤية حضارية تسمو بالمجتمع وتستمد جذورها من قيم الاستخلاف وعمارة الأرض. هذه الخطة تعتمد على مجموعة من المراحل المتعاقبة التي تتكيف مع أبعادها الزمنية؛ ولكنها تتوافق في مسار متصل يخدم غاية الحياة. بعبارة أوضح، فالتخطيط لا يبدأ من الأرض، بل من الرسالة الكونية، وهي لا تنتهي بزمن، بل تتجدد في كل جيل يحمل غايات تلتقي مع الغاية الأسمى للحياة.
إن هذا النوع من التخطيط يتطلب بناء معرفيا وفكريا قائما على التأمل، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «العمران الروحي والوجداني» الذي يتسامى مع قيم العدل والأخلاق الفاضلة التي جاءت بها الأديان السماوية. وفي الفكر الصوفي يعبر الوجدان عن حالة صفاء القلب التي تتجاوز الإدراك الحسي والعقلي ليتذوق فيها الإنسان حلاوة التأمل في حقائق الوجود. إن جوهر هذا الفكر يكمن في أن التخطيط ليس مجرد أداة لتنظيم العمران فحسب؛ بل هو مشروع فكري يجسد علاقة الإنسان بالمكان والزمان. وهكذا، فالمدينة لا تقاس بالبنية المادية ولكن بمدى فهمنا للعلاقة الوجدانية بين الإنسان والمكان.
ويمكن تأكيد البعد الروحي والوجداني في التخطيط العمراني من خلال أهداف تنموية تستحضر قيم الانتماء، والمشاركة، والعدالة، والهوية، والتعايش. فلا يمكن مثلا بناء مدينة وجدانية دون مشاركة السكان؛ لأن المشاركة تولد الإحساس بالانتماء للمكان وتعزز الهوية وتحقق العدالة ليتحول الفضاء العمراني عندئذ إلى فضاء عاطفي.
إن العمران الروحي والوجداني يعبر عن التجربة الإنسانية في صور الحب، والرحمة، والتكافل، والتعايش، والجمال؛ أي أن المعنى الباطني للعمران هو عمران الإنسان بما في ذلك عمران النفس والروح. ويمكن تفسير ذلك بتجلي البناء الداخلي للنفس والروح بما يعكس انسجامها مع الرسالة السماوية لتخلق مدن تحقق رمزية المعنى. إن هذا المفهوم يضع المخطط أمام مسؤولية تتجاوز فكرة المخططات العمرانية الجامدة، إلى أبعاد تسمو بالإنسان كقيمة عليا في عملية البناء.
في الوقت الراهن، نعيش مرحلة من التحولات العمرانية المتسارعة والتي جعلت المدن أسيرة للتخطيط قصير الأجل، نلهث خلف معالجة الإشكالات الحضرية الآنية دون أن نعي جذورها الفكرية، ودون استلهام تام للغاية الحضارية العليا التي يمثل فيها العمران نفسه كرسالة أخلاقية مستمرة «إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». إذا استوعبنا ذلك فلن تكون الخطط العمرانية مجرد مخططات وتقارير استراتيجية تقليدية؛ بل رسائل مكتوبة بحروف نورانية تضمن استدامة الوجود الإنساني وتعيده مرة أخرى إلى السماء.