كيف يمكن للهندسة الحديثة أن تحمي تراث السعودية لأجيال قادمة
الخميس - 09 أكتوبر 2025
Thu - 09 Oct 2025
لا يحيا التراث على الحنين وحده في السعودية، فجدران الدرعية الطينية، وأزقة جدة التاريخية الضيقة، وعجائب العلا المنحوتة في الصخور، ليست مجرد أطلال من الماضي؛ إنها شواهد حية على الهوية.
لكن الحفاظ على هذا الإرث للأجيال المقبلة يتطلب أكثر من مجرد الترميم؛ إنه يحتاج إلى الابتكار. فالتحدي الثقافي الأكبر أمام المملكة ليس في سؤال: هل سيبقى التراث؟ بل: كيف سيتكيف ليستمر؟
ويكمن الجواب، بشكل متزايد، في الهندسة الحديثة: أنظمة صوتية تحافظ على السكينة، وزجاج يحمي دون أن يحجب، وحلول تظليل تبرد المساحات دون أن تمحو ملامح الأصالة.
لماذا لا يمكن للتراث أن يصمد من دون الابتكار
وضعت رؤية 2030 الثقافة في قلب التحول الوطني. فالدرعية، مهد المملكة، تشهد مشروعا بقيمة 63.2 مليار دولار لإحياء العمارة النجدية الطينية. لكن ما قد لا يدركه كثيرون هو أن هذه الترميمات كانت ستنهار سريعا أمام متطلبات الاستخدام الحديث لولا تدخل الهندسة المتقدمة. هنا تتجلى أهمية الحلول الهندسية التي تدعم العمارة التقليدية بصمت، وتضمن أن يصمد الماضي أمام ضغوط الحاضر.
من المتوقع أن ينمو قطاع السياحة في السعودية بنسبة 11% سنويا حتى عام 2032 بحسب WTTC مع تدفق ملايين الزوار إلى المناطق التراثية. فكيف يمكن استقبال هذا العدد دون الإضرار بالمواقع؟ وكيف يمكن حماية الجدران الهشة من الحرارة والضوضاء والاستهلاك، مع الإبقاء على تجربة غامرة للزائر؟ الجواب الواقعي الوحيد هو التكنولوجيا.
هذا هو جوهر العمارة السلمانية التي تسعى إلى حماية التراث لا استبداله. من مركز الملك عبدالعزيز التاريخي إلى المجتمعات الجديدة مثل سدرة، الرسالة واضحة: التنمية يجب أن تعزز الهوية السعودية لا أن تمحوها.
الدرعية: دراسة حالة في التوازن بين الماضي والحاضر
عند التجول في الدرعية اليوم، تبدو الأفنية النجدية وكأنها تعود إلى قرون مضت. لكن ما لا يراه الزائر هو الطبقات الخفية من الحلول الحديثة: أنظمة صوتية تقلل الصدى في القاعات الثقافية، وزجاج يحمي الداخل من أشعة الشمس القاسية، وأنظمة تظليل آلية تبرد الأفنية دون أن تكسر إيقاعها التاريخي. حتى أكثر المشاريع طموحا هنا تخضع لقواعد صارمة تخص اللون الأصفر الطيني للدرعية، بما يضمن أن تظل الهندسة الحديثة في خدمة الأصالة لا على حسابها.
هذا ليس تنازلا، بل هو تعاون. فالمهندسون والمعماريون السعوديون يثبتون أن التراث يمكن أن يبقى أصيلا بينما يلبي في الوقت نفسه متطلبات الحياة العصرية.
عندما يصبح الصمت خيارا تصميميا
التراث ليس بصريا فقط، بل حسي أيضا. فكر في أماكن الصلاة حيث تحافظ السكينة على روحانية المكان، أو المتاحف المفتوحة حيث لا ينبغي للجمهور أن يغطي صوت الخطيب. في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، جرى دمج حلول صوتية حديثة داخل القاعات بطريقة غير مرئية. النتيجة: تجربة صوتية نقية، يسمع فيها الزائر كل كلمة وكل نغمة دون أن يشعر بوجود التقنية.
هذا النهج يتوسع ليشمل مواقع أخرى. ففي العلا، تختبر حلول امتصاص الصوت في المدرجات الحجرية. وفي جدة التاريخية، تضاف ألواح مخفية لتقليل الضوضاء في المراكز المجتمعية. ولا ينتقص أي من ذلك من التراث، بل يعمق التجربة ويجعلها أكثر هدوءا وإنسانية.
ظل يحمي.. لا يمحو
صيف السعودية قاس، ومع ذلك لا يمكن أن تعتمد الأفنية والأسواق والمراكز الثقافية التراثية على التبريد الميكانيكي وحده. هنا تبرز أنظمة التظليل الذكية: من ستائر خشبية قابلة للطي تندمج مع الواجهات التقليدية، إلى ستائر قماشية مستدامة تقلل من الحمل الحراري. هذه الحلول تخفض تكاليف الطاقة وتطيل عمر المباني التراثية الداخلية. وفي أحد مشاريع الترميم الأخيرة، جرى دمج أنظمة التظليل في الساحات الخارجية بسلاسة لدرجة أن الزوار اعتقدوا أنها جزء من التصميم الأصلي. وهذا هو جوهر الفن: حماية التاريخ دون أن تعلن التقنية عن نفسها.
الزجاج الذكي للمناخ: حماية دون حجب
عرفت العمارة التراثية في السعودية النوافذ الصغيرة لحماية الخصوصية والحد من الحرارة. اليوم، يعمل الزجاج الحديث ضمن هذه الحدود ليضيف طبقة خفية من الراحة والحماية. ففي المتاحف، يحمي الزجاج المتخصص المخطوطات والمنسوجات من أضرار الأشعة فوق البنفسجية دون تعتيم المكان. وفي الفلل التراثية، يساعد الزجاج المستجيب للمناخ في خفض استهلاك الطاقة مع الحفاظ على أبعاد النوافذ التقليدية.
إنها ثورة هادئة: زجاج لا يتيح فقط النظر إلى التاريخ، بل يضمن أن يبقى مرئيا للأجيال المقبلة.
الاستدامة: بيئية وثقافية
لا يمكن أن يكون الحفظ مستداما إذا اعتمد فقط على الإسمنت والحنين. فالمواد المستخدمة لها دور أساسي. فالألواح الصوتية المصنوعة من معادن طبيعية تقلل الارتداد الصوتي في القاعات الثقافية دون إضافة نفايات صناعية. أما الستائر المصنوعة من أقمشة معتمدة بيئيا فتخفف الحمل الحراري في المتاحف التراثية. كما تقلل أنظمة التظليل والزجاج الآلية الاعتماد على التكييف، مع الحفاظ على راحة الزوار.
وهنا، لا تعني الاستدامة الجانب البيئي فقط، بل الثقافي أيضا. فإذا لم تستطع المباني التكيف مع متطلبات الطاقة المستقبلية، فلن تتمكن من البقاء.
الصورة الأوسع: تراث يتنفس
إن إحياء التراث السعودي لا يعني تجميد الماضي في قوالب زجاجية، بل منحه حياة جديدة قادرة على مواجهة متطلبات العصر. فالهندسة ليست عدوا للتقاليد، بل شريك صامت لها.
السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت السعودية قادرة على حماية تراثها، بل كيف يمكن أن تحميه بطريقة تجعله صالحا للعيش، قابلا للاستخدام، وملهما على مدى مئة عام قادمة.
والمؤشرات حتى الآن تؤكد أن الجواب هو: نعم. فمع دمج الهندسة الحديثة بالجدران القديمة، لم يعد التراث مجرد ما نرثه، بل ما نختار أن نورثه.