فهد عبدالله العنزي

حين تسبقنا الرسائل...!

الاثنين - 06 أكتوبر 2025

Mon - 06 Oct 2025

في صباح بعيد، قبل أقل من عام، وصلتني رسالة قصيرة من صديق وزميل وأستاذ تعلمت منه الكثير خلال دراستي في أمريكا. كتب لي بكلمات هادئة رغم ثقلها: "Hey brother, I have liver cancer. Will call this weekend."

لم تكن رسالة عابرة، كانت إعلانا صامتا عن معركة صعبة مع مرض السرطان. لم تمض سنة على هذه الكلمات حتى غاب صاحبها عن الدنيا. ومع رحيله، ترك وراءه فراغا لا يملأ، وحزنا عميقا، لكنه في الوقت نفسه خلف أثرا طيبا في نفوس طلابه وأصدقائه وكل من عرفه. كان إنسانا من طراز نادر: متواضعا في حديثه، كريما في خلقه، محبا للحياة. كل من اقترب منه شعر بالراحة والاحترام، لا لأنه كان يتكلم كثيرا، بل لأنه كان يستمع أكثر، ويشجع أكثر، ويمد يده لمن يحتاجه دون أن يطلب، كان سندا لطلابه وداعما لأصدقائه، لا يتأخر عن مساعدة أحد، ولا يكل عن تشجيع من حوله. وحين رحل، امتلأت صفحاته برسائل الامتنان والتقدير، لتشهد أن العطاء الحقيقي لا يضيع، وأن الإنسان يذكر بما زرع من خير قبل أن يذكر بما امتلك من مناصب أو إنجازات ظاهرية.. وأن الخير لا يضيع وإن الأثر الإنساني أبقى من العمر نفسه.

كانت قصتي معه منذ أول يوم التقيت به في الجامعة. كنت - وما زلت - أحمل طموحا كبيرا لخدمة القطاع الذي أنتمي إليه، فعرضت عليه فكرة مبادرة كنت أنوي تقديمها للمسؤولين حين تنضج. استقبلها بحماس استثنائي، ومنذ تلك اللحظة بدأت بيننا علاقة تجاوزت حدود الطالب بأستاذه، لتصبح علاقة زمالة وتعاون. قدم لي أفكارا بناءة، وفتح أمامي أبواب المراجع والمصادر، وعرفني على عدد من المختصين، حتى تبلورت الفكرة في مبادرة مشتركة نالت اهتمام سمو الوزير.

ومع مرور الوقت، توثقت العلاقة بيننا أكثر، فقد كان يعتبرني أخا له. جمعتني به وبأسرته لقاءات في منزله، حتى صار أبنائي يعرفون عائلته، وتحولت العلاقة من مجرد أستاذ وطالب إلى صداقة إنسانية عميقة. وبعد أن أنهيت دراستي معه في مقررين أو ثلاثة، ظلت العلاقة أقوى من كل المسافات.

تلك اللحظات العائلية كانت تعكس إنسانيته ودفء قلبه، وهي اليوم جزء من ذكرياتي الأثمن. وكنت أطمح، بعد عودتي إلى أرض الوطن واستقرار أحوالي، أن أدعوه لزيارة المملكة، ليتعرف عن قرب على ثقافتنا وتراثنا، وليرى بنفسه حجم التطوير والنهضة التي تعيشها بلادنا هذه الأيام. كنت أشعر أن دوري هناك لم يقتصر على التحصيل العلمي، بل كنت في كل لقاء وفي كل مبادرة أمثل وطني، وأحمل صورته المشرقة، وأؤكد أن أبناء المملكة سفراء لقيمها قبل أن يكونوا طلابا لشهاداتها.

تأملت رحيله كثيرا، كيف يمكن لبضع كلمات أن تتحول إلى ميراث من الذكرى؟ وكيف يغيب جسد ويبقى أثره يضيء في الذاكرة؟ وتوقفت عند المفارقة المؤلمة: هناك من يغادر الدنيا فيذكر بخير ويترحم عليه الجميع، وهناك من يبقى حاضرا بيننا، لكنه يترك وراءه جراحا غائرة في قلوب من ظلمهم أو أساء إليهم. بعض الناس يظلمون بلفظ جارح، أو يستهزئون بتعليقات ساخرة، أو يمارسون المكر والخديعة لإقصاء الآخرين، وربما يقطعون أرزاقهم ويمنعون حقوقهم بدافع أنانية ضيقة أو يخشون على مناصبهم أكثر مما يخشون على إنسانيتهم.

اللحظة التي هزتني هي إدراك أن هذا الصديق، الذي رحل، ما زال حيا في قلوبنا بما تركه من أثر كريم، بينما هناك من لا يرحلون جسديا بعد، لكنهم قد ماتوا أخلاقيا في أعين من ظلموهم. وهنا يبرز السؤال الأهم: ماذا سيكتب الناس عنا حين نرحل؟

هذه ليست دعوة للانشغال برأي الناس بقدر ما هي دعوة للتفكر في علاقتنا بالآخرين. فالعدل والرحمة والصدق ليست مجرد قيم مثالية، بل هي استثمار طويل الأمد في الذاكرة الإنسانية. حين نرحل، لن يتذكرنا الناس بعدد قراراتنا أو قوة مناصبنا، ولن تشفع لنا الألقاب، بل سيتذكرون كيف عاملناهم: هل أنصفناهم؟ هل ساندناهم؟ أم كسرناهم وتجاهلنا حقوقهم؟

إن ما يتركه الإنسان من أثر في القلوب لا يشترى ولا يفرض بالقوة. إنه يبنى عبر تفاصيل صغيرة: كلمة طيبة، دعم في لحظة ضعف، نصيحة صادقة، إنصاف في وقت خصومة، أو حتى مجرد ابتسامة بعثت طمأنينة. تلك التفاصيل هى التي تصنع إرثا إنسانيا خالدا، يظل يتردد صداه حتى بعد الرحيل.

لقد رحل صديقي، لكن أثره باقٍ، وكلما تذكرت رسالته الأخيرة أيقنت أن حياتنا قصيرة جدا، وأن أعمارنا قد تختصر في كلمات قليلة تبقى بعدنا. سوف نترك خلفنا كلمات وصورا وذكريات، بعضها يفيض بالامتنان، وبعضها الآخر قد يفيض بالخذلان. والاختيار بأيدينا. فلنحرص أن تكون رسائلنا، وأفعالنا، وذكرياتنا التي تبقى بعدنا بيضاء ناصعة، تفتح باب الرحمة لا اللوم، وتنشر الحب لا الجرح.

فالإنسان لا يقاس بعدد أيامه، بل بما يبقى منه بعد أن يغيب.