تركي القبلان

الرياض ودبلوماسية الإجماع الدولي: كيف غيرت السعودية خريطة الاعتراف بفلسطين

الاثنين - 29 سبتمبر 2025

Mon - 29 Sep 2025


لم يعد الدور السعودي في القضية الفلسطينية مجرد تعبير عن موقف مبدئي ثابت أو دعم معنوي محدود، بل تحول إلى ممارسة استراتيجية متكاملة أعادت تشكيل البيئة السياسية العالمية. فمن خلال دبلوماسية اتسمت بالرصانة والهدوء المحسوب والرشاقة في الحركة، قادت الرياض واحدة من أكبر عمليات الحشد الدولي التي عرفتها القضية الفلسطينية لتصنع تحولا غير مسبوق في مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

واليوم، بعد وصول عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 159 دولة لم يعد الاعتراف مجرد خطوة رمزية بل تحول إلى قاعدة راسخة تشكل ما يشبه «إجماعا عالميا» ليغطي ما يتجاوز 80% من دول العالم. وهذه النتيجة لم تكن وليدة ظرف عابر بل حصيلة عمل دبلوماسي متدرج استثمرت فيه المملكة ثقلها السياسي والاقتصادي على نحو مدروس.

لقد جاء التحرك السعودي على مستويات متوازية ومتكاملة، ففي الإطار الأممي ساهمت الرياض في الدفع نحو قرارات مفصلية بدءا من «إعلان نيويورك» وصولا إلى «مؤتمر حل الدولتين» الذي وضع فلسطين مجددا في قلب النظام الدولي. وعلى المستوى الثنائي عملت الدبلوماسية السعودية على إقناع العواصم المؤثرة بأن الاعتراف بفلسطين ليس مجرد اصطفاف سياسي بل خيار عقلاني يضمن استقرار النظام العالمي.

أما في البعد الرمزي، فقد تميزت السعودية بخطاب متزن يبتعد عن الانفعال ويقدم الاعتراف باعتباره ضرورة استراتيجية لإنهاء صراع طال أمده وليس مجرد استجابة لضغط إنساني أو عاطفي. وقد منح هذا الأسلوب المتوازن والمرن التحرك السعودي قوة مضاعفة، إذ استطاع أن يتجاوز الانقسامات التقليدية بين الشرق والغرب، وأن يعيد تشكيل صورة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية «شرعية دولية» وليست نزاعا إقليميا محصورا في الشرق الأوسط. بهذا أعادت السعودية فلسطين إلى موقع «قضية الإجماع العالمي»، وجعلت الاعتراف بها معيارا من معايير العدالة الدولية.

وبذلك، نجحت الرياض في ترسيخ مكانتها كفاعل مركزي قادر على إدارة التوازنات وصياغة الإجماع الدولي، فهي لم تدر الملف الفلسطيني كملف تضامني فحسب بل كملف شرعية دولية يرتبط بمستقبل النظام العالمي ذاته.

والرقم 159 ليس مجرد إحصاء للدول المؤيدة بل شهادة على قدرة السعودية على هندسة لحظة تاريخية فارقة، حيث تحول الاعتراف بفلسطين من حلم مؤجل إلى واقع سياسي آخذ في التبلور، وقد أثبتت الدبلوماسية السعودية قدرتها على قيادة تحولات عميقة في الساحة الدولية تتجاوز حدود الإقليم لتصل إلى قلب النظام العالمي.

نحن أمام مرحلة في تاريخ العالم المعاصر تبرز فيها السعودية وهي تعيد صياغة قواعد اللعبة السياسية على المستوى الدولي. فقد نجحت في تحويل الاعتراف بدولة فلسطين إلى معيار يقاس به مدى التزام الدول بالعدالة، وإلى بوابة لإعادة تعريف مفهوم الشرعية الدولية في عالم مضطرب، نعم إنها مرحلة جديدة تعيد رسم مكانة السعودية بوصفها الضامن الأخلاقي والاستراتيجي لقضية فلسطين والقوة القادرة على توجيه البوصلة العالمية نحو موقف أكثر عدلا وإنصافا. وبذلك فإن الرياض تؤسس لشرعية دولية جديدة تعيد الاعتبار للعدالة كعنصر أصيل في توازنات العالم القادم.

TurkiGoblan@