التفريغ المؤسسي: الأزمة الصامتة في رأس المال البشري
الاثنين - 29 سبتمبر 2025
Mon - 29 Sep 2025
في بيئات قطاعات العمل المعاصرة، لا تتجلى الأزمات الكبرى في العناوين الصاخبة بقدر ما تتخفى في تفاصيل الموارد البشرية، حيث تستنزف الكفاءات بصمت، وتذوب المعرفة الضمنية بين انتقال وآخر، وهذا ما يسمى بالتفريغ المؤسسي، فهو خسارة متراكمة للخبرة والعصب المعرفي، بحيث تجعل المؤسسة تعمل شكليا بينما تتآكل قدرتها الحقيقية على الإنجاز، وما بين فكر استراتيجي يشتغل على الاستدامة، وفكر تقليدي يستهلك الحاضر، يتقرر مصير الجهات في المنافسة على المستقبل.
ولعل الفكر الاستراتيجي في المؤسسات - حكومية أو خاصة أو غير ربحية - يعلي من قيمة الإنسان، ويربط التخطيط بعيد المدى بالقدرة على صون الكفاءات وتطويرها، ويشتغل على خرائط الوظائف الحرجة، ويؤسس لخطط التعاقب القيادي، ويقيس ولاء الموظفين ويعالج فجوات الاحتفاظ. أما الفكر التقليدي فيكتفي بتسيير العمل اليومي، ويركز على الإجراءات والأنظمة أكثر من تركيزه على بناء رأس مال بشري مستدام، والنتيجة أن المؤسسة التقليدية قد تؤدي مهامها بشكل يومي، لكنها تفقد تدريجيا مقومات البقاء الاستراتيجي.
ثم إن طريقة نظرة القيادات إلى الموظفين تكشف بوضوح فلسفة المؤسسة؛ فإذا عد الموظف تكلفة تشغيلية، فستغلب على السياسات حلول الترقيع والاستبدال السريع، أما إذا عد أصلا معرفيا، فستسود سياسات الاستثمار والتطوير والتعاقب، وانعكاس ذلك يظهر في تفاصيل إدارية صغيرة مثل: هل تقييم الأداء وسيلة للترقية والتطوير أم أداة للرقابة؟ وهل تعطى فرق العمل مساحة لاتخاذ القرار أم تدار بمنطق التعليمات؟ هذه الممارسات اليومية تترجم الفكر المؤسسي وتحدد مستقبل المؤسسة أكثر مما تفعل الخطط المكتوبة.
وعلى هذا الأساس، فإن التفريغ المؤسسي لا يحدث فجأة، بل يتشكل عبر آليات دقيقة، منها: غياب المسارات المهنية الواضحة، اختلال العدالة الوظيفية الداخلية، تنصيب غير الكفاءات، تجميد التدريب، ضعف إدارة المعرفة، وتراخي الحوكمة. ومع مرور الوقت، تتسرب الكفاءات، وتظهر فجوات في المهارات الرقمية والتحليلية، ويزداد زمن شَغْل المناصب، وتتراجع المشاركة في التعلم، وتنحسر المبادرات الابتكارية، وهذه كلها أعراض مبكرة لأزمة صامتة لا تكتشف إلا حين تتوقف المؤسسة عن الإنجاز الفعلي رغم استمرارها في العمل الشكلي.
ومن هنا تتضح المفارقة، فبعض المؤسسات تدرك الخطر فتعمل بذكاء على استقطاب الكفاءات من الخارج وصيانة كوادرها في الداخل، فتصوغ عرض قيمة وظيفية جذابا، وتفتح مسارات لإعادة التأهيل، وتؤسس مجتمعات معرفية ممارسة تحافظ على الخبرة داخلها، وهذه المؤسسات لا ترى في الاستثمار في التدريب تكلفة، بل ضمانة للبقاء في صدارة المنافسة.
وفي المقابل، هناك مؤسسات أخرى تغفل عن قيمة مواردها البشرية، فتسمح للكفاءات بالتسرب تدريجيا، ولا تشعر بالخطر إلا حين تجد نفسها أمام خلل استراتيجي لا يسهل إصلاحه. فعلى الصعيد العالمي، نجد قصة نوكيا التي فقدت ريادتها حين أهملت الاستثمار في الابتكار والكوادر التقنية، في مقابل شركات مثل جوجل التي بنت تفوقها على بيئات عمل جاذبة، وبرامج تطوير تحول الموظف إلى طاقة ابتكارية متجددة.
وعليه فإن الاستجابة الذكية للتفريغ المؤسسي تبدأ بخريطة دقيقة للوظائف الحرجة، ثم مقابلات «البقاء» لفهم دوافع الاستقرار، ثم بناء لوحات مؤشرات لقياس معدلات الاحتفاظ، ويعقب ذلك إطلاق برامج لإعادة التأهيل، وتوثيق المعرفة الضمنية، وتأسيس مجتمعات ممارسة تشاركية، بحيث تصبح المعرفة جزءا من النظام لا حكرا على الأفراد. وفي المدى البعيد، تربط الحوافز بالمخرجات، والمنصب بالكفاءة لا بالعلاقة، ويراجع العرض الوظيفي دوريا لضمان استدامة الجاذبية.
إن مأزق التفريغ المؤسسي ليس حادثا إداريا عابرا، بل أزمة استراتيجية صامتة تتسلل إلى جسد المؤسسة حتى تفرغها من مضمونها، فالمؤسسات التي تدرك هذا الخطر تبني سياسات متينة لصون كفاءاتها، أما التي تغفل فتكتشف متأخرة أنها تدير قشرة بلا لب، ولهذا تأتي رسالة صريحة لبعض الجهات: احرصوا على كفاءاتكم قبل أن تستقطبها المؤسسات الأذكى، فالموظف الخبير ليس رقما في مسيرات الرواتب، بل هو طبقات من المعرفة وشبكة من الأثر لا تشترى ولا تنسخ، فمن يحافظ على كفاءاته اليوم، يضمن بقاءه غدا؛ ومن يفرط فيها، يدرك متأخرا أن الزمن لا يعود إلى الوراء.
Drmutir@