وليد الزامل

رمزية أبو فانوس بين التخطيط والضياع

السبت - 27 سبتمبر 2025

Sat - 27 Sep 2025



كنت أقود سيارتي ويرافقني أحد الأصدقاء ليلا في طريق صحراوي مظلم، وأثناء السير أشار صديقي إلى اتجاه محدد قائلا أنظر ذاك «أبو فانوس» يحاول أن يضلك بعيدا عن مسارك. على الفور أخذت الموضوع على محمل الجد وطلبت من صديقي أن يساعدني في تتبع الموقع من خلال نظام التموضع العالمي GPS ومطابقته بالخرائط اليدوية وتقدير المسافة وزمن الوصول بدقة، واتبعنا المسار حتى وصلنا إلى الهدف. وأبو فانوس لمن لا يعرفه هو شخصية أسطورية أو رمزية في التراث الشعبي العربي، وتظهر بشكل متكرر في القصص التي تدور أحداثها في الصحراء. ويقال إنه من الجن ويظهر في الصحاري ليحاول إضلال الناس أو تغيير مسارهم باتجاه آخر دون أن يتسبب بأضرار جسيمة لهم. هذه الأساطير تستخدم غالبا كقصص للتحذير من التجوال في الصحاري ليلا دون خطة دقيقة.

عندما وصلت إلى المنزل استسلمت للنوم العميق، وفي اليوم التالي وقعت بين يدي مجموعة من التقارير الاستراتيجية للمدن على مدار 30 عاما ماضية، فعكفت على مراجعتها. والتقارير الاستراتيجية للمدن هي وثائق تقدم تحليلا شاملا للمدن تحدد من خلاله الرؤى والأهداف المستقبلية، وتلحق بمخططات تهدف في مجملها إلى تنظيم وإدارة الموارد والسكان بشكل يضمن تحقيق التنمية المستدامة. تعد هذه التقارير بمثابة أداة لصناع القرار تساعد في وضع استراتيجيات مستقبلية لتطوير البنية التحتية، وتعزيز الخدمات، وتحسين جودة الحياة، وتحقيق التوازن بين البعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

بعد فراغي من مراجعة التقارير، وجدت أن العديد من التصورات المستقبلية التي تناولتها هذه التقارير كانت مجرد خرائط ومقترحات لم يتم تطبيقها على أرض الواقع، وفقا للإطار الزمني المحدد سلفا، وهذا ما جعل منها تبدو وكأنها مجرد أفكار غير ملزمة بإطار تنفيذي. وعلاوة على ذلك، لم تستشرف هذه الخطط الاستراتيجية المستقبل بدقة لتضع سياسات عمرانية قادرة على التعامل مع المشاكل الحضرية المستقبلية بما في ذلك قضايا النقل، والإسكان، والطاقة. أتساءل ما هي أهمية المخططات الاستراتيجية للمدن إذا لم تستشرف المستقبل وترسم توجها قابلا للتنفيذ؟ التخطيط العمراني يعنى بالمستقبل دون انتظار المشاكل الحضرية حين تقع ثم محاولة علاجها لا حقها.

عندما راجعت هذه المخططات على الفور تذكرت شخصية «أبو فانوس» هذه الشخصية الأسطورية التي تحاول إلهاءك وإبعادك عن مسارك الاستراتيجي لترسم لك خطا آخر بعيدا عن الهدف. حينئذ تتحول هذه المخططات إلى مجرد أفكار نظرية بلا قواعد تنفيذية واضحة أو آليات رقابة صارمة، وهي كمثل أبو فانوس، تراه يلمع في الصحراء ليضلك عن طريقك ويشتت انتباهك عن المسار الحقيقي.

الإشكالية تكمن في أن ضعف الإطار التشريعي والتنفيذي يجعل من الخطط الاستراتيجية غير ملزمة أو قابلة للتنفيذ. تبدو هذه الخطط كأنها مجرد تفسير لمراحل النمو العمراني ومسارات الحركة وتوزيع لاستعمالات الأراضي المستقبلية؛ لتتحول فيما بعد إلى مجرد أدوات يقودها السوق، تماما كما يضلل أبو فانوس السالكين في الصحراء.

ليس كل ما يلمع هو حقيقة، وليس كل خطة تبدو واضحة ومثالية، تصل في النهاية إلى تحقيق الأهداف المنشودة بلا أدوات فاعلة. ولن يكون للتخطيط العمراني قيمة مؤثرة إذا لم توضع هذه الخطط موضع التنفيذ، وهو ما يتطلب تفعيل الإطار التشريعي والتنفيذي، وفق جدول زمني واضح ومؤشرات أداء وإطار حوكمة يؤكد على مشاركة المجتمع، وصولا إلى تحقيق الأهداف المنشودة.