منع الهيمنة وصناعة البديل: كيف ساهمت السياسات الأمريكية في تسريع مشروع أوراسيا؟
الاثنين - 15 سبتمبر 2025
Mon - 15 Sep 2025
منذ انتهاء الحرب الباردة، وضعت الولايات المتحدة نصب أعينها هدفا استراتيجيا جوهريا يتمثل في منع ظهور قوة أوراسية موحدة قادرة على منافستها في قيادة النظام الدولي. هذه الرؤية التي بلورها بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" تنطلق من فرضية أساسية مفادها بأن أي تكتل يجمع أوروبا وروسيا والصين سيشكل كتلة بشرية واقتصادية وعسكرية تتفوق على القدرات الأمريكية.
وعلى الطرف الآخر من الطيف الفكري، طور الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين نظريته الجيوسياسية المضادة في كتابه "النظرية السياسية الرابعة"، والتي تدعو إلى قيام إمبراطورية أوراسية تكون بديلا عن الهيمنة الأنجلو-أمريكية، وتقوم على تحالف استراتيجي بين روسيا كقلب قاري وشركاء آسيويين وإسلاميين لمواجهة ما يصفه بـ"القوة البحرية الأطلسية".
غير أن المفارقة التي تكشفت عبر العقدين الماضيين تشير إلى أن السياسات الأمريكية ذاتها، رغم نجاحها التكتيكي قصير المدى، قد أسهمت بصورة غير مقصودة في تحقيق جوانب مهمة من رؤية دوغين وتسريع مسار التقارب بين القوى الأوراسية.
لفهم هذه المفارقة، يجب النظر إلى التطورات الجيوسياسية عبر ثلاث مراحل زمنية متميزة. في المرحلة الأولى (1991-2008)، نجحت واشنطن نسبيا في إبقاء روسيا ضعيفة ومنشغلة بأزماتها الداخلية، بينما كانت الصين لا تزال في مراحل النمو المبكرة ولم تشكل تهديدا مباشرا. خلال هذه الفترة، بدت أفكار دوغين حول أوراسيا مجرد تنظيرات أكاديمية منفصلة عن الواقع السياسي.
أما المرحلة الثانية (2008-2014) فشهدت بداية التحدي مع الأزمة المالية العالمية والحرب الجورجية، حيث بدأت روسيا تسترد عافيتها والصين تؤكد حضورها الإقليمي، وبدأت بعض عناصر الرؤية الأوراسية تأخذ شكلا مؤسسيا أوليا. لكن المرحلة الحاسمة بدأت مع الأزمة الأوكرانية عام 2014، والتي مثلت نقطة تحول استراتيجي في العلاقات الدولية وفتحت المجال واسعا أمام تطبيق عملي لمفاهيم التكامل الأوراسي.
عندما فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات غير مسبوقة على موسكو إثر ضم القرم والتدخل في شرق أوكرانيا، كان الأثر المباشر هو قطع أوصال التعاون الروسي-الأوروبي وإجبار روسيا على البحث عن بدائل شرقية. هذا التوجه لم يكن مجرد خيار سياسي، بل ضرورة اقتصادية ملحة، خاصة في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والتمويل. فالتجارة الروسية-الصينية التي كانت 110 مليارات دولار عام 2019 قفزت إلى 200 مليار دولار بحلول 2023، مما يعكس عمق التكامل الاقتصادي المتسارع.
أكثر من ذلك، استثمرت روسيا بكثافة في المؤسسات الأوراسية البديلة مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي للتعاون، والتي توسعت عضويتها لتشمل الهند وإيران وتستقطب اهتمام دول أخرى مهمة، محققة بذلك جزءا مهما من التصور النظري الذي طرحه دوغين حول إنشاء كتلة قارية متماسكة.
بموازاة ذلك، أدت السياسة الأمريكية تجاه الصين، من قيود التكنولوجيا إلى التطويق العسكري في بحر الصين الجنوبي، إلى تعزيز اقتناع بكين بأن المواجهة مع الغرب محتومة وأن الاستثمار في الشراكات الأوراسية ضرورة استراتيجية. هذا ما دفع الصين إلى تكثيف استثماراتها في مشروع "الحزام والطريق" عبر آسيا الوسطى وإيران، وتوثيق تعاونها مع روسيا في مجالات الطاقة والتكنولوجيا العسكرية، رغم وجود تنافس تقليدي بينهما في بعض المناطق.
لكن الأثر الأكبر ربما يتجلى في التحولات الأوروبية نفسها. إدارة واشنطن لحرب أوكرانيا، رغم نجاحها في توحيد الموقف الأطلسي ظاهريا، أدت إلى استنزاف الاقتصادات الأوروبية وتقليص هوامش المناورة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي. ارتفاع أسعار الطاقة وتضرر الصناعات الألمانية خاصة، خلقا تيارات سياسية واقتصادية تبحث عن بدائل، وإن كان ذلك يتم بحذر شديد نظرا للالتزامات الأطلسية. هذا الضعف النسبي للاقتصاد الأوروبي فتح المجال أمام القوى الآسيوية لملء الفراغ تدريجيا، سواء في أسواق الطاقة أو الاستثمار أو التكنولوجيا.
في منطقة الشرق الأوسط، أدى تكثيف الضغوط الأمريكية على الدول العربية لمحاولة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل (وقد اصطدمت مع الموقف الحازم من السعودية بعدم التطبيع دون قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية) ، وكذلك الإصرار على إدخال إسرائيل ضمن منظومة الأمن الشرق أوسطي إلى زيادة رغبة هذه الدول في تنويع شراكاتها الاستراتيجية.
هذا التوجه تعمق بشكل نوعي مع التصعيد الإسرائيلي المباشر ضد دول الخليج، والذي لم يعد مقتصرا على العمليات الاستخباراتية السرية كما حدث في اغتيال محمود المبحوح في دبي عام 2010، بل تطور إلى ضربات عسكرية مباشرة كما شهدته الدوحة، مما نقل طبيعة التهديد من ساحة الاستخبارات إلى ساحة القوة المسلحة الصريحة. هذا التطور الخطير في طبيعة التهديد الأمني جعل دول الخليج تدرك أن الاعتماد الحصري على المظلة الأمنية الأمريكية لم يعد كافيا لضمان أمنها القومي، وخاصة أن واشنطن تبدو غير قادرة أو غير راغبة في كبح جماح الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة الخليجية.
دول الخليج تحديدا، التي تعتمد على صادرات النفط والغاز المسال إلى آسيا بنسبة تزيد على 75%، باتت تنظر إلى الصين والهند كأسواق أكثر أهمية من الأسواق الأوروبية المتراجعة. هذا التحول التجاري رافقه تعاون متزايد في مجالات التكنولوجيا والاستثمار، مما خلق شبكة مصالح معقدة تربط المنطقة بالفضاء الأوراسي الأوسع. والأهم من ذلك أن التهديد الإسرائيلي المباشر يجب أن يستثمر لا كمجرد أزمة عابرة، بل كنقطة انطلاق نحو توازن مستعاد يقوده الخليج عبر بوابته السعودية، ويستند إلى تحالف آسيوي واسع يضمن العمق الاستراتيجي والاستقرار طويل المدى.
السعودية، بحكم موقعها الجيوسياسي وقدراتها الاقتصادية، تجد نفسها في موقع فريد لقيادة هذا التحول الاستراتيجي. فمشاريع رؤية 2030 والمدن المستقبلية مثل نيوم تتطلب شراكات تكنولوجية واستثمارية ضخمة لا يمكن للغرب وحده توفيرها، خاصة في ظل التردد الأمريكي على نقل التكنولوجيا الحساسة. هذا ما يدفع الرياض نحو تعميق شراكاتها مع الصين في مجال الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، ومع روسيا في مجال الطاقة ضمن تحالف "أوبك+"، ومع الهند في مجال الاستثمارات والطاقة. هذه الشراكات المتنوعة تخلق نموذجا جديدا للأمن الخليجي يقوم على التنويع الاستراتيجي بدلا من الاعتماد الأحادي على المحور الأطلسي.
ومع ذلك فلا بد أن نقرأ المشهد بموضوعية تامة في تصوير هذه التطورات كمشروع موحد ومنسق تماما. فالتنافس بين الصين والهند لا يزال محتدما على الحدود وفي المحيط الهندي، وتركيا تحافظ على سياسة متوازنة بين الشرق والغرب رغم خلافاتها مع واشنطن، وحتى الشراكة (الروسية-الصينية) تواجه تحديات في آسيا الوسطى، حيث تتداخل مناطق النفوذ. كما أن العوامل الداخلية تلعب دورا مهما في هذه التحولات، فالنمو الاقتصادي الصيني والتحولات الديموغرافية الروسية والطموحات الإقليمية الهندية كلها متغيرات مستقلة نسبيا عن السياسات الأمريكية.
حتى أفكار دوغين نفسها تواجه تحديات عملية في التطبيق، فالهويات القومية والمصالح الاقتصادية المتضاربة تحد من إمكانية إنشاء إمبراطورية أوراسية متجانسة كما يتصورها.
مع ذلك، تبقى الخلاصة الأساسية صحيحة: الولايات المتحدة تجد نفسها في موقع من يصنع عكس ما يريد إلى حد كبير. فبينما تهدف سياساتها إلى تفكيك أوراسيا واحتواء منافسيها منفردين، فإنها تخلق الظروف الموضوعية لتسريع التكامل بين هذه القوى وتحقيق جوانب مهمة من الرؤية الجيوسياسية البديلة. روسيا وجدت في الشرق بديلا عن الغرب المغلق، والصين وجدت في التكامل الأوراسي وسيلة لتخفيف أثر الحصار التكنولوجي والاقتصادي، وأوروبا تجد نفسها تدريجيا أكثر اعتمادا على خيارات خارج المظلة الأمريكية الحصرية، ودول الخليج تكتشف أن أمنها الحقيقي يكمن في تنويع التحالفات الآسيوية الواسعة وليس في الاعتماد على حليف غير قادر على حمايتها من انتهاكات حليفه الآخر.
هذا لا يعني أن مشروع أوراسيا بات واقعا مكتمل الأركان، فالتحديات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية كبيرة، والمؤسسات الناشئة لا تزال هشة مقارنة بالمؤسسات الغربية العريقة. لكنه يعني أن الاتجاه العام للتطورات الدولية يسير في مسار يتناقض مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى، مما يعكس واحدة من أعقد مفارقات النظام الدولي المعاصر: أن القوة التي سعت إلى منع ظهور البديل قد تكون هي ذاتها التي تسرع ظهوره من خلال ردود أفعالها قصيرة المدى على تحديات تتطلب رؤية استراتيجية أكثر عمقا ومرونة.
TurkiGoblan@
وعلى الطرف الآخر من الطيف الفكري، طور الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين نظريته الجيوسياسية المضادة في كتابه "النظرية السياسية الرابعة"، والتي تدعو إلى قيام إمبراطورية أوراسية تكون بديلا عن الهيمنة الأنجلو-أمريكية، وتقوم على تحالف استراتيجي بين روسيا كقلب قاري وشركاء آسيويين وإسلاميين لمواجهة ما يصفه بـ"القوة البحرية الأطلسية".
غير أن المفارقة التي تكشفت عبر العقدين الماضيين تشير إلى أن السياسات الأمريكية ذاتها، رغم نجاحها التكتيكي قصير المدى، قد أسهمت بصورة غير مقصودة في تحقيق جوانب مهمة من رؤية دوغين وتسريع مسار التقارب بين القوى الأوراسية.
لفهم هذه المفارقة، يجب النظر إلى التطورات الجيوسياسية عبر ثلاث مراحل زمنية متميزة. في المرحلة الأولى (1991-2008)، نجحت واشنطن نسبيا في إبقاء روسيا ضعيفة ومنشغلة بأزماتها الداخلية، بينما كانت الصين لا تزال في مراحل النمو المبكرة ولم تشكل تهديدا مباشرا. خلال هذه الفترة، بدت أفكار دوغين حول أوراسيا مجرد تنظيرات أكاديمية منفصلة عن الواقع السياسي.
أما المرحلة الثانية (2008-2014) فشهدت بداية التحدي مع الأزمة المالية العالمية والحرب الجورجية، حيث بدأت روسيا تسترد عافيتها والصين تؤكد حضورها الإقليمي، وبدأت بعض عناصر الرؤية الأوراسية تأخذ شكلا مؤسسيا أوليا. لكن المرحلة الحاسمة بدأت مع الأزمة الأوكرانية عام 2014، والتي مثلت نقطة تحول استراتيجي في العلاقات الدولية وفتحت المجال واسعا أمام تطبيق عملي لمفاهيم التكامل الأوراسي.
عندما فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات غير مسبوقة على موسكو إثر ضم القرم والتدخل في شرق أوكرانيا، كان الأثر المباشر هو قطع أوصال التعاون الروسي-الأوروبي وإجبار روسيا على البحث عن بدائل شرقية. هذا التوجه لم يكن مجرد خيار سياسي، بل ضرورة اقتصادية ملحة، خاصة في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والتمويل. فالتجارة الروسية-الصينية التي كانت 110 مليارات دولار عام 2019 قفزت إلى 200 مليار دولار بحلول 2023، مما يعكس عمق التكامل الاقتصادي المتسارع.
أكثر من ذلك، استثمرت روسيا بكثافة في المؤسسات الأوراسية البديلة مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي للتعاون، والتي توسعت عضويتها لتشمل الهند وإيران وتستقطب اهتمام دول أخرى مهمة، محققة بذلك جزءا مهما من التصور النظري الذي طرحه دوغين حول إنشاء كتلة قارية متماسكة.
بموازاة ذلك، أدت السياسة الأمريكية تجاه الصين، من قيود التكنولوجيا إلى التطويق العسكري في بحر الصين الجنوبي، إلى تعزيز اقتناع بكين بأن المواجهة مع الغرب محتومة وأن الاستثمار في الشراكات الأوراسية ضرورة استراتيجية. هذا ما دفع الصين إلى تكثيف استثماراتها في مشروع "الحزام والطريق" عبر آسيا الوسطى وإيران، وتوثيق تعاونها مع روسيا في مجالات الطاقة والتكنولوجيا العسكرية، رغم وجود تنافس تقليدي بينهما في بعض المناطق.
لكن الأثر الأكبر ربما يتجلى في التحولات الأوروبية نفسها. إدارة واشنطن لحرب أوكرانيا، رغم نجاحها في توحيد الموقف الأطلسي ظاهريا، أدت إلى استنزاف الاقتصادات الأوروبية وتقليص هوامش المناورة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي. ارتفاع أسعار الطاقة وتضرر الصناعات الألمانية خاصة، خلقا تيارات سياسية واقتصادية تبحث عن بدائل، وإن كان ذلك يتم بحذر شديد نظرا للالتزامات الأطلسية. هذا الضعف النسبي للاقتصاد الأوروبي فتح المجال أمام القوى الآسيوية لملء الفراغ تدريجيا، سواء في أسواق الطاقة أو الاستثمار أو التكنولوجيا.
في منطقة الشرق الأوسط، أدى تكثيف الضغوط الأمريكية على الدول العربية لمحاولة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل (وقد اصطدمت مع الموقف الحازم من السعودية بعدم التطبيع دون قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية) ، وكذلك الإصرار على إدخال إسرائيل ضمن منظومة الأمن الشرق أوسطي إلى زيادة رغبة هذه الدول في تنويع شراكاتها الاستراتيجية.
هذا التوجه تعمق بشكل نوعي مع التصعيد الإسرائيلي المباشر ضد دول الخليج، والذي لم يعد مقتصرا على العمليات الاستخباراتية السرية كما حدث في اغتيال محمود المبحوح في دبي عام 2010، بل تطور إلى ضربات عسكرية مباشرة كما شهدته الدوحة، مما نقل طبيعة التهديد من ساحة الاستخبارات إلى ساحة القوة المسلحة الصريحة. هذا التطور الخطير في طبيعة التهديد الأمني جعل دول الخليج تدرك أن الاعتماد الحصري على المظلة الأمنية الأمريكية لم يعد كافيا لضمان أمنها القومي، وخاصة أن واشنطن تبدو غير قادرة أو غير راغبة في كبح جماح الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة الخليجية.
دول الخليج تحديدا، التي تعتمد على صادرات النفط والغاز المسال إلى آسيا بنسبة تزيد على 75%، باتت تنظر إلى الصين والهند كأسواق أكثر أهمية من الأسواق الأوروبية المتراجعة. هذا التحول التجاري رافقه تعاون متزايد في مجالات التكنولوجيا والاستثمار، مما خلق شبكة مصالح معقدة تربط المنطقة بالفضاء الأوراسي الأوسع. والأهم من ذلك أن التهديد الإسرائيلي المباشر يجب أن يستثمر لا كمجرد أزمة عابرة، بل كنقطة انطلاق نحو توازن مستعاد يقوده الخليج عبر بوابته السعودية، ويستند إلى تحالف آسيوي واسع يضمن العمق الاستراتيجي والاستقرار طويل المدى.
السعودية، بحكم موقعها الجيوسياسي وقدراتها الاقتصادية، تجد نفسها في موقع فريد لقيادة هذا التحول الاستراتيجي. فمشاريع رؤية 2030 والمدن المستقبلية مثل نيوم تتطلب شراكات تكنولوجية واستثمارية ضخمة لا يمكن للغرب وحده توفيرها، خاصة في ظل التردد الأمريكي على نقل التكنولوجيا الحساسة. هذا ما يدفع الرياض نحو تعميق شراكاتها مع الصين في مجال الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، ومع روسيا في مجال الطاقة ضمن تحالف "أوبك+"، ومع الهند في مجال الاستثمارات والطاقة. هذه الشراكات المتنوعة تخلق نموذجا جديدا للأمن الخليجي يقوم على التنويع الاستراتيجي بدلا من الاعتماد الأحادي على المحور الأطلسي.
ومع ذلك فلا بد أن نقرأ المشهد بموضوعية تامة في تصوير هذه التطورات كمشروع موحد ومنسق تماما. فالتنافس بين الصين والهند لا يزال محتدما على الحدود وفي المحيط الهندي، وتركيا تحافظ على سياسة متوازنة بين الشرق والغرب رغم خلافاتها مع واشنطن، وحتى الشراكة (الروسية-الصينية) تواجه تحديات في آسيا الوسطى، حيث تتداخل مناطق النفوذ. كما أن العوامل الداخلية تلعب دورا مهما في هذه التحولات، فالنمو الاقتصادي الصيني والتحولات الديموغرافية الروسية والطموحات الإقليمية الهندية كلها متغيرات مستقلة نسبيا عن السياسات الأمريكية.
حتى أفكار دوغين نفسها تواجه تحديات عملية في التطبيق، فالهويات القومية والمصالح الاقتصادية المتضاربة تحد من إمكانية إنشاء إمبراطورية أوراسية متجانسة كما يتصورها.
مع ذلك، تبقى الخلاصة الأساسية صحيحة: الولايات المتحدة تجد نفسها في موقع من يصنع عكس ما يريد إلى حد كبير. فبينما تهدف سياساتها إلى تفكيك أوراسيا واحتواء منافسيها منفردين، فإنها تخلق الظروف الموضوعية لتسريع التكامل بين هذه القوى وتحقيق جوانب مهمة من الرؤية الجيوسياسية البديلة. روسيا وجدت في الشرق بديلا عن الغرب المغلق، والصين وجدت في التكامل الأوراسي وسيلة لتخفيف أثر الحصار التكنولوجي والاقتصادي، وأوروبا تجد نفسها تدريجيا أكثر اعتمادا على خيارات خارج المظلة الأمريكية الحصرية، ودول الخليج تكتشف أن أمنها الحقيقي يكمن في تنويع التحالفات الآسيوية الواسعة وليس في الاعتماد على حليف غير قادر على حمايتها من انتهاكات حليفه الآخر.
هذا لا يعني أن مشروع أوراسيا بات واقعا مكتمل الأركان، فالتحديات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية كبيرة، والمؤسسات الناشئة لا تزال هشة مقارنة بالمؤسسات الغربية العريقة. لكنه يعني أن الاتجاه العام للتطورات الدولية يسير في مسار يتناقض مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى، مما يعكس واحدة من أعقد مفارقات النظام الدولي المعاصر: أن القوة التي سعت إلى منع ظهور البديل قد تكون هي ذاتها التي تسرع ظهوره من خلال ردود أفعالها قصيرة المدى على تحديات تتطلب رؤية استراتيجية أكثر عمقا ومرونة.
TurkiGoblan@