ناقية الهتاني

فن الخلاف.. حين يبقى "اختلاف"

الخميس - 11 سبتمبر 2025

Thu - 11 Sep 2025

من البديهي أننا لا نسعى للخلاف ولا للشقاق، ولكنه طريق لا مفر منه تفرضه حتمية الوجود والتفاعل الإنساني، ففي تاريخ العلوم المختلفة ومنها؛ الفكر والفن والسياسة وغيرها من العلوم، لم تكن العظمة يوما في الإجماع، بل في القدرة على إدارة الخلاف بذكاء وكرامة. فقد كان الخلاف بقناعاتهم جسرا طوعوه نحو التطور.

وعلى افتراض وجوده المستمر، فالخلاف ليس عيبا ولا منقصة، بل امتحان للنضج، ومرآة تعكس احترامنا لذواتنا قبل الآخرين، والأزمة الحقيقية هي؛ كيف ندير هذا الخلاف؟! ... لأن من لا يحسن إدارة الخلاف، لا يحسن بناء أي حوار. وقد تذكرت مقولة لأحد المؤثرين ذكر فيها؛ أن حقيقة الخلاف هي كالزجاج حين يسقط على الأرض وتتناثر أجزاؤه، كل جزء يكون في مكان، كل منا يظن أن الجزء الذي معه هو الجزء الأهم.

لذلك لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الأسوة الحسنة في اختلافاتهم واجتهاداتهم وفهمهم لأوامر رسولهم وسلامة قلوبهم حين كانوا يختلفون ولا يختصمون، لأن الحكمة تقتضي أن يكون الخلاف بيننا نقطة تحول في الإدراك، والفهم، وترك مساحة كافية للمراجعة والتفكير، فالحقيقة لا تسكن في ضفة واحدة، ولا تأتي من جهة واحدة ولا يملكها شخص واحد.

ولعلي من خلال هذا المقال أطلق لعنان أفكاركم أنموذجا جاء في سطور التاريخ المضيئة، الإمام الشافعي "رحمه الله" لا بوصفه فقيها، بل كأنموذج في فن الخلاف وأدب الحوار، ورقة القلب، وسمو الخلق، فكان الخلاف في حضرته نقاشا لا نزاعا، وتنوعا لا تصادما، وكان من رقته مع المخالف يقول "ما ناظرت أحدا إلا على أن يجري الله الحق على لسانه".

صورة أخرى للإمام أبي حنيفة "رحمه الله" الذي عرف بالجدل الهادئ وأدب الحوار، مع تلاميذه الذين كانوا يخالفونه الرأي في بعض المسائل، وكان يقر بفضلهم ويحترم رأيهم ويقول كلمات عميقة تبين غايته من النقاش، ومن أشهر ما نقل عنه، "هذا رأينا، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بخير منه قبلناه".

وهناك نماذج من الشركات الكبرى التي اتخذت من الخلاف والاختلاف مكنزا وفيرا قادها للأفكار التطويرية، فنفذت عددا من الممارسات منها؛ شركة (Google)، تعتمد سياسة الاجتماعات المفتوحة، حيث تسمح بمناقشة الأفكار مباشرة مع الإدارة، شركة (Microsoft) اعتمدت سياسة الاستماع الفعال، فلا يوجد رأي واحد ومعرفة مطلقة، (Disney) اعتمدت مبدأ "Yes, and..." بدلا من "No, but... البناء على فكرة الزميل بدل رفضها.

وكما نعلم أن هناك مهارات متعددة تجعل من الخلاف مجرد اختلاف أهمها: الفصل بين الشخص والفكرة التي يطرحها، السير بمعادلة أكسب وتكسب (Win–Win)، وإعادة الصياغة للتأكد من الفهم الصحيح، البحث عن النقاط المشتركة، المرونة العقلية والنفسية، وإدارة الانفعالات، ونصل بذلك لتحويل الخلاف إلى فرصة، وصناعة وجه آخر للتنوع الذي به تزهر الحياة.

إلا أننا من زاوية أخرى قائمة على نظرة سنجد أن الخلاف موجة عابرة تهز السكون ولا تحدث الفوضى، فالاختلافات والآراء المتباينة تصنع الحوار، والحوار يصنع الفهم، والفهم يصنع التقدم، وهذا كالأهزوجة الشعبية التي كانوا ينشدونها على مسامعنا ونحن أطفال (يا مطره رشي رشي.........) وذلك عندما نطلب طلبا ونتمنى شيئا لن يتحقق إلا بوجود شيء آخر في مكان آخر لنتعلم من ذلك أن الحقيقة لا نملكها نحن فقط، والاكتمال لا يكون فقط في وجودنا.

وتبقى الصورة الأجمل، فبين الخلاف والاختلاف خيط رفيع من الأدب والأخلاق يصنع مسافة شاسعة بينهما كونه يحقق مساحة حرة لفقد الخلاف ونمو الاختلاف.