صندوق الجريدة ما زال معلقا
الخميس - 11 سبتمبر 2025
Thu - 11 Sep 2025
ينتابني كل صباح شعور الارتباط الأصيل والاحتفاظ بالجميل للصحف المطبوعة كلما نظرت لصندوق الجريدة معلقا خارج منزلي؛ لأعيش معه حالة من العشق العذري المسموح باسترجاع صور الماضي والأيام الخوالي وأنا ألتقط ما فيه من كنوز.
بالمقارنة بين نمطي الصحافة الكلاسيكية والجديدة؛ صحيح أن الثانية ألغت الحدود المكانية والزمانية؛ وعجلت ووفرت وساعدت في الانتشار وبث الأخبار، إلا أن هذه المزايا أحيانا ما تفضي للسطحية والمسح السريع بالنظر للفلاشات والملخصات والاستهلاك التصويري الخاطف، وتؤدي للغرق في بحر التعليقات والردود والتلوث من ضجيج الإشعارات وطنين المؤثرات وغث الدعايات.
بينما الأولى تدعو لتفعيل الإيقاع الهادئ وقراءة الأحداث بعمق من العناوين الكبيرة إلى الصغيرة، وتجعل القارئ يعيش في حالة تقليب لا شعوري مع جريدته يمنة ويسرة، لتمنحه فسحة الاختلاء والتفكير للدخول بين سطور مادتها الخبرية وتحليلها، وتقديم نموذج رصين للقراءة الفاحصة المبنية على التمهل والتأمل والتحقيق والتدقيق، التي تعطي القارئ أسلوبا خاصا ورونقا متفردا.
ناهيك عن الإيجابيات التي أجدها شخصيا في الصحيفة المكتوبة من استدعاء للذاكرة وتنشيط للحفظ وتقوية للغة أكثر من عملية التدفق اللحظي والزوال المرحلي والإرهاق البصري التي تسببها النواقل الالكترونية، كما أنني أعتبر الجريدة أداة مكتبية للأرشفة العتيقة؛ فبينما تبتلع الفضاءات الرقمية ملايين الأخبار في خوارزميات أجد أن الجرائد تحتفظ بذاكرة تاريخية متماسكة يمكن العودة إليها كوثيقة اجتماعية، وهي التي تمنحها أصالة الكتابة.
وباستقصاء تجريبي شفوي أجريته شخصيا مع عدد من القراء أتتبع من خلاله سلوكيات قراءتهم، جاءت الاستجابات متباينة بمؤشرات تفيد بأن القراءة الورقية لا تزال مستمرة في المحافظة على عراقتها لدى البعض، وتبقيهم في حال ارتباط شرطي متبادل بين القارئ والجريدة، بمعنى أينما حضرت الجريدة توقدت الحواس الثلاث، وبحسب تصريحات البعض من أولئك المفحوصين بقولهم «عندما ننظر للخبر ونتلمس الصحيفة ونشتم رائحتها ينتابنا شعور النشوة الغامرة بعكس ما نجده من القراءة الالكترونية العابرة».
ومن منظور دراسات الفكر الكلاسيكي للإعلام، فإن الصحافة الورقية تعكس الرؤى البحثية الجادة لتعطيها قيمة معرفية وثقافية مبنية على عاملي المصداقية والتوثيق باعتبارهما جوهر العملية الصحفية، وذلك بسبب أن الصحف الورقية بعد طباعتها وتوزيعها يصعب إعادتها أو تغيير محتواها، فيرسخ في الذهنية المسبقة لدى الكاتب والصحفي والمدقق والمراجع كيفية انتقاء الأحداث وتجويد وصولها للمتلقي، مما يتطلب شدة التقصي وقوة التنقيب عن المعلومة، ومن ثم يتعزز لدى القارئ صحة الأخبار والأمانة المهنية لدى الكادر الصحفي، الأمر الذي ينتج عنه تفضيلات الجمهور للصحف وحدوث الحراك المجتمعي ومن ثم إعلاء القيمة التنافسية نحو كل جريدة.
بعض الدول ما زالت تصدر صحفا ورقية مثل بريطانيا صحيفة «ذا سن» عدد قرائها 6 ملايين نسخة تقريبا، و«دايلي ميل» توزيعها اليومي مليوني نسخة؛ وصحيفة «يوم يوري شيمبون» اليابانية 5.7 ملايين نسخة يوميا؛ و«ذا تايمز او إنديا» الهندية 3.4 ملايين نسخة يوميا؛ وصحيفة «سين شو دايلي» الماليزية 340,000 نسخة يوميا؛ و«ذا اوستريليان» الأسترالية بعدد قراء 450,000 يوميا.
أرى أن إعادة إصدار الصحف الورقية تزامنا مع الالكترونية تعتبر توليفة تنمي التوازن بين العمق والسرعة والتأمل المعرفي والنشر الرقمي، مما يعزز التقبل المجتمعي للنمطين لتكوين وعي متنوع.
صحيح أننا نعيش عصر الانفتاح الذي يتطلب التوفير اقتصاديا والسرعة معلوماتيا؛ ولكن أجدها فرصة صحية لأستبقي مشاعري بعيدة لفترة عن المد الالكتروني، وأسترجع الحنين مع الصحف الورقية وأنا أستمع لصوت الفنان فوزي محسون وهو يغني «قديمك نديمك لو الجديد أغناك».
Yos123Omar@