سلطان نايف الحربي

المعلم النيتشوي: بين الخلق والتبعية في فضاء التربية

الأربعاء - 10 سبتمبر 2025

Wed - 10 Sep 2025

في مواجهة صلابة البنى البيروقراطية للمؤسسات التعليمية، وفي ظل هيمنة نماذج تقليدية تعيد إنتاج نفسها دون مساءلة، يبرز نموذج فريد للمعلم: المعلم بوصفه ذاتا خلاقة، لا تابعا إداريا. هذا النموذج، المستنير بالفكر النيتشوي، لا يسلم بمفهوم التعليم القائم على التلقين وإعادة التكرار، بل يراه مساحة فعل وجودي، ومجالا للخلق وإعادة التشكيل.

لقد عبر فريدريك نيتشه عن رفضه للثوابت الجامدة والأصنام الفكرية حين قال: إن كل تقليد هو عدو للحقيقة، وكل يقين موروث هو قيد على الإرادة الحرة. من هذا المنطلق، يمكن للمعلم أن يتماهى مع ما أطلق عليه نيتشه "إرادة القوة" لا بوصفها سعيا للهيمنة، بل كقدرة على تجاوز المألوف، وإرادة لصناعة الذات والمصير.

في هذا السياق، لا ينبغي للمعلم أن يختزل في كونه ناقلا للمحتوى التعليمي أو منفذا للخطط المركزية الجاهزة، بل يفترض أن يكون صانعا للمعنى، مؤطرا للقيم، ومبدعا في طرائق إشعال الفضول الإنساني داخل كل متعلم. فكما قال نيتشه: من يملك سببا من أجله يعيش، يمكنه تحمل أي شيء. إن المعلم الذي يجد في مهنته سببا للوجود الخلاق، يستطيع أن يصوغ من المحن والأزمات التعليمية فرصا تربوية لا تقدر بثمن.

المدرسة التقليدية، في صورتها المعروفة، كثيرا ما تجسد ما وصفه نيتشه بـ"الأصنام"، حيث الفكر يصبح تقليدا لا نقدا، والقيم تتحول إلى لائحة واجبة التنفيذ، والإبداع يستبدل بالانصياع. غير أن نيتشه نفسه يرى أن في "الأرض المحروقة" تكمن إمكانيات التجدد، إذ قال: لا بد من أن تحمل في نفسك فوضى، كي تلد نجما راقصا. والفصل الدراسي، مهما بدا متكلسا، يمكن أن يتحول إلى فضاء للخلق حين يقارب بوصفه مسرحا للتجربة، لا مختبرا للامتثال.

في هذا الإطار تظهر أهمية المعلم القائد، لا بوصفه مديرا لمحتوى؛ بل بوصفه صائغا لسردية تربوية حية، فالمنهج بدل أن يقرأ كدليل إجرائي مغلق، يمكن أن يعاد تأويله بوصفه نصا مفتوحا، يتيح للمعلم أن ينسج من خلاله عوالم متعددة المعاني، قابلة للتجاوز والنقد والتشكيل.

ولعل أحد أهم الأسئلة التي يثيرها الفكر النيتشوي في السياق التربوي هو: كيف يمكن للمعلم أن يخلق نظاما قيميا نابعا من خبرته التربوية الشخصية، لا مستعارا من نصوص بيروقراطية جامدة؟ هنا، يتقاطع دور المعلم مع ما يسميه نيتشه بـ"الفيلسوف الفنان"، ذاك الذي لا يكتفي بتحليل الواقع، بل يعيد تشكيله وفق رؤيته الجمالية والأخلاقية.

وبالتالي، فإن التربية في صورتها النيتشوية ليست تكرارا لما هو قائم، بل هي نفي مستمر لما هو مألوف، وطرح دائم لما يمكن أن يكون. المعلم، في هذا الأفق، لا يلقن بل يلهم، لا يطوع بل يحرر، لا يتبع بل يبتكر. إنها دعوة إلى تجاوز التعليم بوصفه وظيفة، نحو إدراكه كفعل وجودي خلاق، يمارسه المعلم لا كمنفذ، بل كفرد حر يسهم في صناعة إنسان المستقبل.