المَجمع الذي يجمع...
الأربعاء - 10 سبتمبر 2025
Wed - 10 Sep 2025
أن تمضي باللغة العربية إلى مقامها الأعلى، منطلقا من مكة المكرمة وبرعاية وطنية سامية، فذلك خطوة حضارية كبرى.
وأن تتحمل مسؤولية حراسة لغة الضاد، والتمكين لها، مهتما باللهجات، مصححا الأخطاء، مقربا إياها من محبيها والناطقين بغيرها، وذلك دور محوري في صون الهوية وحفظ التواصل بين الأجيال.
ولعل هذا الشرف في خدمة الفصحى كان البوابة التي قادتني إلى تجربة شخصية أعمق، فقد سنحت لي الفرصة للمشاركة في برنامج رقمي ممتد لأكثر من شهرين، «دبلوم اللغة العربية الشامل» الذي ينفذه مجمع اللغة العربية بمكة المكرمة بالتعاون مع معهد سيبويه. وكانت التجربة مواكبة لمرحلة من النضج يعيد فيها المرء ترتيب أفكاره، ويختبر ما تبقى من علومه في زحام الحياة. ومن حيث لا أدري، وجدت أن غرس معلمات المتوسطة والثانوية، لا يزال راسخا في الذاكرة. فتحت عيني على عالم أرحب، حيث دارت نقاشات متعمقة حول سبع مواد: النحو كعمود الخيمة، البلاغة مرآة الجمال، الصرف أداة النحت، والمعاجم خزائن المعنى. الثقافة كنافذة، والإملاء للضبط، ثم العَروض ميزان الشعر: وهو ما جعلني ألوم الخليل الفراهيدي، سامحه الله، على استفعاله.
وإذا كانت التجربة الفردية تعيد ترتيب علاقتنا باللغة، فإن المؤسسات الكبرى هي التي تعيد ترتيب علاقة الأمة بلغتها. أسست فرنسا أكاديميتها في القرن السابع عشر، وإسبانيا تملك أكاديميتها الملكية التي تنظم لسان مئات الملايين، بينما بدأ العرب بتأسيس مجامعهم في القرن العشرين، بدءا بدمشق 1919 ثم القاهرة 1932، وتوالت المجامع بعدها. أما الخليج فتأخر حتى العقد الماضي، وكانت مكة المكرمة صاحبة المبادرة، بإطلاق مجمع اللغة العربية عام 2012.
انشغلت المجامع القديمة بتعريب المصطلحات ووضع المعاجم في سياق النهضة الفكرية، بينما جاءت المبادرة السعودية برؤية رقمية عبر مسارين متكاملين: مجمع مكة المكرمة كمبادرة أهلية بقيادة د. عبدالعزيز الحربي، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي أنشأته وزارة الثقافة عام 2020 ذراعا رسميا للسياسات والمبادرات الكبرى. وليست هذه التجارب جديدة عالميا؛ فالفرنسية تتولاها الأكاديمية منذ القرن السابع عشر، والإسبانية ترعاها الأكاديمية الملكية على مدى ثلاثة قرون عبر شبكة دولية، فيما تمضي المبادرة السعودية بالاتجاه نفسه مع اختلاف السياق وحداثة التجربة، لتعزز حضورها وتأثيرها محليا ودوليا.
تشير تقارير اليونسكو إلى أن 40% من لغات العالم مهددة بالاندثار، رغم أن لغات كالإسبانية والفرنسية حافظت على مكانتها عالميا بفضل مؤسساتها التعليمية والثقافية. فاللغة قوة ناعمة تصنع حضورا عالميا، كما فعلت كوريا الجنوبية حين حولت لغتها، خلال عقدين، إلى أداة جذب عالمي عبر ما يسمى «الهاليو/ الموجة الكورية» وغزت العالم من خلال الدراما والموسيقى. وتظهر هناك تجارب لدول جنوب أفريقيا والهند أن حماية اللغات قضية عالمية، لا تخص الضاد وحدها.
ليست القضية متى ولدت المجامع اللغوية، بل من يملك الجرأة على قيادة لغة الأمة في مواجهة التحديات. تحديات مركبة تبدأ بتفشي العاميات في التعليم والإعلام، وتمتد إلى عزوف الأجيال الجديدة عن الفصحى، ثم تتعمق مع النظرة الدونية للغة في ظل هيمنة الإنجليزية في الجامعات والتعليم بوصفها رمزا للحداثة. مما يعكس فجوة متنامية بين المؤسسات اللغوية والواقع الثقافي المتغير. ويزداد هذا التحدي إلحاحا مع ضعف التمويل وقلة الكفاءات المتخصصة، وهما من أبرز العقبات أمام أي نهوض مؤسسي فعال.
في مواجهة هذا الواقع، قدم مجمع مكة نموذجا مختلفا للمشروع اللغوي، عبر دبلومات متخصصة، ومجلات محكمة، ومنصات تفاعلية، والفتوى والاستشارات اللغوية. وعزز مكانته العلمية بنخبة من سبعين عالما من مختلف الأقطار، وخرج آلاف المتدربين الذين أصبحوا سفراء للعربية. وبفضل نشاطه الرقمي، بات حاضرا في هواتف الناس، ومتصلا بهم على نحو مباشر. فبحسب موقعه الرسمي، هناك أكثر من 940 ألف متابع، و90 ألف فتوى لغوية، و250 استشارة يوميا، ما جعله في طليعة المجامع العربية رقميا.
ما تحقق في سنوات وجيزة يشير إلى مسار استراتيجي يتجه بالمجمع نحو التحول إلى بيت خبرة دولي ومرجعية في السياسات اللغوية، معززا دوره كمركز عالمي للتعليم ومنصة رقمية تدعم المحتوى العربي بالذكاء الاصطناعي، ليجعل الفصحى موردا معرفيا واقتصاديا منافسا في ثقافة الجيل المعاصر. وأرى أن هذا المسار، إن استمر بهذه الوتيرة، فهو قادر على إحداث نقلة نوعية في موقع العربية عالميا، مستندا إلى كفاءة القائمين عليه في المزاوجة بين الرؤية المؤسسية والعمل العلمي المتخصص. ومصدر قوة هذه الرؤية أنها تنبع من طبيعة العربية ذاتها، لغة ذات بنية فكرية وحضارية ثرية، وهو ما أكده المستشرق الفرنسي إرنست رينان حين وصفها بأنها «أكثر اللغات السامية كمالا؛ فليس لها طفولة ولا شيخوخة».
المجمع الذي يجمع... بوابة تفتح نحو المستقبل، في زمن تتهدد فيه الهويات، لتكون لغة القرآن نبضا حيا وانتماء جامعا.
فتحية تقدير خالصة لكل من حمل هم العربية، وجعل من هذا المشروع علامة فارقة في مسيرة اللغة ونهضتها.