عبدالحليم البراك

أوامر متضادة..

الاثنين - 08 سبتمبر 2025

Mon - 08 Sep 2025



يبدو أننا نحن البشر كائنات غريبة فعلا: نريد الشيء ونقيضه في آن واحد، خذ مثلا ذلك الأب الحنون الذي يريد من ابنه أن يكون «مستثمرا ناجحا»، فيشجعه على شراء مبنى ضخم يدر الملايين. لكن في لحظة ما؛ الأب نفسه يصرخ بعد دقيقة «شدد على المستأجرين في الصيانة حتى لا يفسد المبنى!»... ثم يلتفت حوله ليجد أن المستثمرين هربوا إلى مبان أخرى أقل تشددا. ومع ذلك يجلس الأب بعدها متأملا وهو يقول «يا ابني... إذا كثرت القواعد فسدت اللعبة!» خذ مثالا آخر: أب يريد من ابنه أن يكون «حاضرا اجتماعيا»، يشارك في كل الاجتماعات العائلية، يضحك مع العمات، يمازح الخالات، يظهر في الأعراس والجنائز حتى لا ينسى الناس اسم العائلة... وفي الوقت نفسه، يريد منه أن يتخرج طبيبا من كلية الطب. يا عزيزي الأب، هل حضرت يوما محاضرة تشريح؟ الطب يحتاج عكوفا في غرفة مظلمة بين جثث مستوردة وكتب وقراءة لا تنتهي. أما أن يكون الطبيب «نجم السهرة» و«فخر المدرجات»، فهذه صعبة.

كلنا نرفع الشعارات ونردد «اشتر المنتج المحلي! دعم الصناعة الوطنية واجب»، لكن لحظة الصندوق عند الكاشير تسقط الأقنعة: فجأة يصبح حتى المنتج الآسيوي «أجود وأرخص وأحلى» من أي شيء صنع هنا. والمصيبة أن البعض يشتري المستورد ويجلس بعدها في المقهى يصرخ «لماذا صناعتنا لا تنهض؟!» الإجابة بسيطة يا سيدي: صناعتنا تنهض كلما توقفت عن تفضيل المنتج الذي جاءك على ظهر سفينة حاويات رخيصة.

وهنا ندخل في القضية الأعظم: المرأة، تارة نريدها مربية أجيال، وتارة أخرى نريدها سيدة أعمال، ومرات نريدها مدربة كرة قدم! ولا بأس في توزيع الأدوار بين السيدات لكن الإشكالية أن بعضنا يريدها في كل الأدوار دفعة واحدة، فيتحول المطبخ إلى قاعة اجتماعات، وغرفة الأطفال إلى صالة تدريب رياضي، والبيت إلى شركة مساهمة. المشكلة ليست في تعدد الأدوار، بل في رغبتنا الجامحة أن تكون المرأة نسخة محدثة من «سوبرمان» ترتدي حجابا وكعبا عاليا... لا فرق، المهم أن تقوم بكل شيء... وفي وقت قصير!

وأخيرا، يطل علينا بعض المسؤولين ليحدثونا عن «التنمية». لكن التنمية عندهم لا تحتاج تعبا ولا جهدا ولا عرقا. يريدون تطوير البلد بالعقلية القديمة نفسها، بالأسلوب نفسه الذي لم يفلح من قبل، مع إضافة لمسة «تقنية حديثة» للزينة فقط. مثل أن تستبدل آلة الطابعة القديمة بجهاز آيباد، ثم تقول «ها نحن دخلنا عصر الرقمنة!»

نحن نريد الشجاعة... دون جرح، نريد الذكاء... دون خطأ، نريد الاستثمار... دون مخاطرة، نريد التنمية... دون تعب، ونريد المرأة... أن تكون كل النساء في جسد واحد.

الحقيقة أننا لسنا في عصر الأوامر المتضادة فحسب، بل حتى في عصر «الأحلام المتناقضة»، حيث نكتب قائمة أمنياتنا «أريد سيارة ... لكن بلا وقود، أريد بيتا في وسط العاصمة... لكن بسعر مزرعة في أطرافها، وأريد وزارة حديثة... بعقلية شيخ قبيلة!»