عبدالله علي بانخر

إدمان الإشعارات: بين هرمونات السعادات وفيروسات الشتات

الأحد - 07 سبتمبر 2025

Sun - 07 Sep 2025



في عصرنا الحالي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وتحول التفاعل معها إلى سلوك يومي يتسم بالشغف والنهم. لكن ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا السلوك، وما هي تداعياته؟ هذا المقال يستعرض الأبعاد النفسية، والفسيولوجية، والاجتماعية لهذه الظاهرة، وكيف يترابط فيها إدمان الإشعارات مع إدمان الشعارات.

بين إدمان الإشعارات وإدمان الشعارات: علاقة معقدة

للوهلة الأولى، قد يبدو أن «إدمان الإشعارات» (السلوك) و«إدمان الشعارات» (المحتوى) مفهومان منفصلان. لكنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. يمكننا القول إن إدمان الإشعارات هو الوسيلة التقنية التي تستخدمها المنصات لجذبنا، بينما إدمان الشعارات هو الهدف النفسي والاجتماعي الذي نبحث عنه من خلال هذه المنصات.

إدمان الإشعارات: الوسيلة التقنية:

هو حالة سلوكية مدفوعة بالرغبة القهرية في التحقق من الهاتف عند سماع أي تنبيه. هذه الرغبة تنبع من حلقة «المكافأة» التي يثيرها إفراز هرمونات المتعة في الدماغ، مما يجعلنا في حالة ترقب دائم لأي تفاعل جديد. على سبيل المثال، عندما تسمع صوت «رنين» من رسالة جديدة، تشعر باندفاع من الفضول يدفعك لفتح الهاتف على الفور.

إدمان الشعارات: الهدف النفسي:

الشعارات هنا لا تعني فقط الرموز البصرية، بل أي فكرة أو هوية أو قضية يتبناها الفرد. إدمانها هو الرغبة في التعبير عن الانتماء لجماعة معينة وتأكيد الذات. على سبيل المثال، عندما يشارك شخص في هاشتاج سياسي مثل #قضيتنا_واحدة أو يدعم تريندا معينا مثل #عشاق_القهوة، فهو يبحث عن مكافأة اجتماعية تتمثل في تفاعل من يشاركونه الفكرة نفسها.

المنصات الرقمية تستغل هذه العلاقة بخلق حلقة مفرغة: تستخدم الإشعارات كآلية جذب، وتوفر الشعارات كمكافأة، مما يجعلنا نعود باستمرار، فيزداد انغماسنا في هذا السلوك.

أولا: دوافع الشغف الرقمي

هذا السلوك ليس مجرد عادة، بل هو نتاج لدوافع عميقة يمكن تلخيصها في عدة نقاط أساسية:

- البحث عن الانتماء والقبول: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ووسائل التواصل الاجتماعي توفر له ساحة لإشباع هذه الحاجة. كل «إعجاب» أو «مشاركة» هي بمثابة تأكيد على وجودنا وأهميتنا. مثال على ذلك، عندما تحصل صورتك على مئات الإعجابات، تشعر بالقبول الاجتماعي الذي يغذي حاجتك للانتماء.

- المكافأة الفورية: عندما نتلقى إشعارا جديدا أو نرى تفاعلا على منشورنا، يفرز الدماغ هرمونات المتعة. هذه المكافأة الفورية تدفعنا إلى تكرار السلوك بشكل لا إرادي. فعلى سبيل المثال، الشعور بالإثارة عند رؤية أن فيديو نشرته قد بدأ يحقق انتشارا واسعا، يدفعك لنشر المزيد. (المصدر: كتاب Dopamine Nation للدكتورة آنا ليمبكي، 2021)

- الخوف من فوات الشيء (FOMO): هو شعور يدفعنا للبقاء متصلين باستمرار خوفا من أن تفوتنا الأخبار المهمة أو الأحداث المثيرة. مثال على ذلك، التحقق من هاتفك بشكل متكرر أثناء مشاهدة مباراة كرة قدم، حتى لا يفوتك أي هدف أو ميم (meme) مضحك انتشر عنها. (دراسة A. Przybylski وآخرين، 2013).

- التعبير عن الذات وتشكيل الهوية: ما نشاركه ونعيد إرساله هو انعكاس لهويتنا وقيمنا. هذه المنصات أصبحت ساحة للتعبير عن الذات وتحديد مواقفنا تجاه القضايا المختلفة. فعلى سبيل المثال، إعادة نشر مقولة لكاتبك المفضل أو صورة لوجبة صحية أعددتها تعبر عن اهتماماتك وقيمك.

ثانيا: أبعاد أعمق للظاهرة

هناك أبعاد أخرى تزيد من فهمنا لهذا الشغف، منها:

- الجانب الفسيولوجي (هرمونات المتعة): المكافأة ليست مضمونة دائما، وهذا ما يزيد من تأثيرها. هذا التباين في المكافأة هو ما يجعل السلوك إدمانيا، حيث نواصل البحث عن «الضربة» التالية من هرمونات المتعة. على سبيل المثال، هذا السلوك يشبه اللعب في ماكينة قمار، حيث تواصل الضغط على الزر على أمل الحصول على الجائزة الكبرى، وفي حالتنا، الجائزة هي إشعار مهم أو تفاعل كبير. (كتاب Dopamine Nation للدكتورة آنا ليمبكي، 2021).

- الجانب السياسي والاجتماعي: وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل هي أداة لتشكيل الرأي العام. الشغف في إعادة الإرسال يساهم في تضخيم أصوات معينة وبناء هويات جماعية، مما يغذي الاستقطاب ويزيد من حدة الانقسامات الاجتماعية. مثال على ذلك، حملة مقاطعة منتج معين قد تنتشر بسرعة هائلة على وسائل التواصل، مما يمنح المشاركين شعورا بأنهم جزء من حركة ضخمة ومؤثرة. (كتاب The Filter Bubble لإيلاي باريسر، 2011).

ثالثا: السلبيات والتحديات

على الرغم من فوائدها، لهذا السلوك تداعيات خطيرة على الفرد والمجتمع:

على المستوى الفردي:

- اضطرابات نفسية: المقارنة المستمرة مع الآخرين تزيد من مشاعر القلق والاكتئاب. على سبيل المثال، عندما ترى صورا لمنازل فاخرة وإجازات مثالية لأصدقائك، قد تشعر بالضيق حيال حياتك الخاصة.

- تشتت التركيز: الاستخدام المفرط يقلل من قدرة الدماغ على التركيز لفترات طويلة. مثال على ذلك، عدم قدرتك على القراءة أو إنجاز مهمة في العمل لأكثر من دقائق معدودة دون الشعور بالحاجة للتحقق من هاتفك.

- العزلة الاجتماعية: على الرغم من التواصل الافتراضي، يمكن أن يؤدي هذا السلوك إلى ضعف العلاقات في الحياة الواقعية. فعلى سبيل المثال، قد يجلس أفراد الأسرة معا في غرفة واحدة، لكن كلا منهم منغمس في هاتفه بدلا من التحدث مع الآخرين. (كتاب iGen للكاتبة جين إم. توينج، 2017).

على المستوى الاجتماعي:

- انتشار المعلومات المضللة: سهولة إعادة الإرسال تؤدي إلى انتشار الأخبار الكاذبة بسرعة هائلة، مما قد يثير الفتن ويضر بالأمن المجتمعي. مثال على ذلك، انتشار شائعة كاذبة عن حدث معين أو شخصية عامة، مما يسبب ضررا كبيرا قبل أن يتمكن أحد من التحقق من صحتها.

- تضخيم الاستقطاب: خوارزميات المنصات تخلق «فقاعات فكرية» تحبسنا في آراء متشابهة، مما يعمق الانقسامات ويقضي على الحوار البناء. على سبيل المثال، إذا كنت تتابع حسابات سياسية معينة، فإن الخوارزمية ستواصل إظهار المحتوى الذي يدعم رأيك، مما يجعلك تعتقد أن وجهة النظر الأخرى خاطئة تماما. (كتاب The Filter Bubble لإيلاي باريسر، 2011).

- انتهاك الخصوصية: في بعض الأحيان، يتم إعادة إرسال معلومات شخصية دون وعي بالمخاطر، مما يهدد خصوصية الأفراد. مثال على ذلك، إعادة نشر لقطة شاشة (screenshot) لمحادثة خاصة تتضمن معلومات شخصية لأشخاص آخرين.

في نهاية المطاف، ليس الشغف الرقمي الذي نعيشه مجرد ظاهرة عابرة، بل هو تحول جذري في علاقاتنا وتفكيرنا. إن فهمنا لكيفية عمل هرمونات المتعة داخل أدمغتنا، وكيفية انتشار فيروسات الشتات في مجتمعنا، هو الخطوة الأولى نحو التحرر. وبينما تواصل الخوارزميات عملها لجذبنا بشكل أقوى، تظل الإرادة البشرية هي حائط الصد الأخير. القرار في يد كل فرد: هل نستمر في السباحة مع التيار، غارقين في بحر الإشعارات والشعارات المتناقضة، أم نتمسك بوعينا، ونعيد بناء جسور التواصل الحقيقي مع أنفسنا ومن حولنا؟ المستقبل ليس مكتوبا بخوارزمية، بل يخطه وعينا وإدراكنا لتحديات الحاضر.