الهوية العمرانية بمعطيات عصرية
السبت - 06 سبتمبر 2025
Sat - 06 Sep 2025
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الهوية العمرانية، ويأتي الجدل البحثي ليطرح تساؤلات عدة حول ماهية هذه الهوية ولماذا نحافظ عليها؟ وكيف نحافظ عليها؟ وهي تساؤلات مشروعة في خضم التحولات التي تشهدها المدن وتأثير العولمة والثقافات العابرة للقارات على المجتمع المحلي.
في الحقيقة، لكل إنسان هويته التي يعتز بها وهي تمثل جملة المظاهر المادية وغير المادية التي تعكس تفرد هذا الشخص وتميزه عن الآخرين بما في ذلك طريقة اللبس وأسلوب الحديث والعادات والممارسات الحياتية. تقاس هذه الهوية بما يراه الآخرون عن هذا الإنسان من مظاهر جسدية، وصفات جوهرية، وممارسات واقعية. وبالمثل، فالهوية العمرانية هي البصمة الحضرية التي تعكس المظاهر المادية وغير المادية التي تتفرد بها المدينة عن بقية المدن. تمثل هذه الهوية كل ما صنعه الإنسان في المكان وتم اختزاله عبر الزمان ليتحول إلى ثقافة اجتمع السكان حولها في إطار جغرافي، وتاريخي تأثر بالعوامل الدينية والسياسية واللغوية.
الهوية العمرانية ليست مجرد شكل مادي، فالانتساب لمدينة ما يعني التعلق الوجداني بالمكان واستحضار كل ما يحمله من خبرات وثقافات وممارسات وتجارب إنسانية. إنها تفسير يتجلى في فهمنا للتجربة المجتمعية في تطويع المكان اتساقا مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
قلت سابقا إن التحول نحو المدن العالمية يقتضي تطوير البنية التحتية والتشريعات العمرانية ومنظومة النقل والاتصالات، بحيث تكون المدينة قادرة على اجتذاب الشركات متعددة الجنسيات والتكامل مع النظام الاقتصادي العالمي بفعالية. ولكن هذا التحول قد يفضي إلى انصهار الهوية المحلية تحت لواء العولمة الغربية، وتسليع التراث العمراني، وتغير الذائقة الاستهلاكية للمجتمع والشعور بالتهميش الاجتماعي للفئات محدودة الدخل أو تلك غير القادرة على التماهي مع معطيات هذا التحول. واليوم أنا أتساءل ما هي القيمة الثقافية المضافة لمدينة مستنسخة بلا هوية، يتخاطب معظم سكانها برموز ومصطلحات غربية، ويقرأون الروايات التافهة، ويتابعون الموضة الفرنسية، ويستهلكون بشراهة البيتزا والهمبرجر؟
أرى أن الحفاظ على الهوية العمرانية يبدأ من فهمنا لأسس بناء هذه الهوية وعناصرها المادية كالفنون الملموسة والعمارة والأزياء؛ مقابل العناصر غير المادية كالتاريخ واللغة والشعر والسواليف والحكايات والموسيقى والرقص. بعبارة أخرى، فالعناية بمكونات الهوية المحلية يمكن أن تقود إلى رفع مكانة المدينة وتزيد من قدرتها على التأثير في النظام الاقتصادي العالمي. إن الحفاظ على الهوية العمرانية أعمق من مجرد تأهيل المواقع التراثية أو إقامة المهرجانات والمناشط الثقافية أو الاحتفال بيوم التراث واللغة العربية.
وحتى لا تتحول مدننا إلى مجرد متاحف ومواقع تراثية ومهرجانات ومعارض فنية بلا روح، علينا ألا نختزل مصطلح «الهوية العمرانية» باستحضار النماذج والطرز العمرانية فحسب؛ بل في مظاهر المدينة المادية وغير المادية كافة، وهذا يتطلب بناء نمط جديد من الهوية العمرانية يتكيف مع تحولات المستقبل ويستنطق القيم الثقافية المحلية في إطار المدينة.
إن الحفاظ على الهوية العمرانية يعني السعي الدؤوب نحو تحويل المدينة إلى «منارة ثقافية» قادرة على تصدير ثقافتها المحلية إلى العالمية. هذه المدينة تؤكد على تطوير الاقتصاد الثقافي كهدف استراتيجي، وتستخدم الهوية كقيمة سوقية تجعلها مركز إشعاع ثقافيا عالميا.
ختاما، فإن تجديد خطاب الهوية العمرانية بمعطيات عصرية يساعد على بناء مسار تسويقي للمدينة ورؤية واضحة تعزز من مكانتها وتفردها بين مدن العالم.