الاقتصاد الفضائي والاستثمارات العالمية الواعدة
الخميس - 04 سبتمبر 2025
Thu - 04 Sep 2025
يشهد الاقتصاد الفضائي العالمي نموا متسارعا في السنوات الأخيرة، منتقلا من مجال محدود تقوده الحكومات إلى قطاع واسع تشارك فيه شركات خاصة مبتكرة. هذا الاقتصاد يشمل كل شيء من صناعة الصواريخ والأقمار الصناعية إلى الخدمات اليومية التي نستخدمها على الأرض كالإنترنت عبر الأقمار الصناعية وأنظمة تحديد المواقع. ويرى البعض أن التوجه الحالي نحو الفضاء يشابه في جوانب عديدة موجة الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر وما بعده، حينما انطلقت الدول الأوروبية لاكتشاف العالم الجديد (أمريكا الشمالية والجنوبية وغيرها).
حيث بلغ حجم الاقتصاد الفضائي العالمي في عام 2023 نحو 570 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل زيادة بحوالي 7.4% عن قيمته في عام 2022 التي كانت نحو 531 مليار دولار. يعكس هذا النمو استمرار التوسع القوي في صناعة الفضاء عالميا بمعدل سنوي تراكمي يقارب 7% خلال السنوات الخمس الأخيرة، وقد تضاعف حجم الاقتصاد الفضائي تقريبا مقارنة بما كان عليه قبل عقد من الزمن، مما يبرز مدى تسارع التطور في هذا المجال. على الرغم من أن إجمالي إيرادات اقتصاد الفضاء لا يزال يشكل نسبة صغيرة نسبيا من الاقتصاد العالمي ككل (أقل من 1% من الناتج العالمي)، إلا أنه يعتبر من أسرع القطاعات نموا. تشير التوقعات، إلى استمرار هذا النمو القوي في المستقبل المنظور، فوفقا لتقرير حديث، تقدر شركة ماكينزي أن يصل حجم اقتصاد الفضاء العالمي إلى حوالي 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2035، مما يدل على آفاق مستقبلية هائلة لهذا القطاع الصاعد.
هذا الحجم الكبير للاقتصاد الفضائي، يعكس القيمة الاقتصادية المتنامية للأنشطة الفضائية المتنوعة. وتشمل هذه الأنشطة خدمات أصبحت أساسية في الاقتصاد العالمي اليوم، مثل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية (التي تربط المجتمعات عالميا وتوفر الاتصالات والإنترنت)، وخدمات الملاحة وتحديد المواقع عالميا GPS التي تدعم مختلف قطاعات النقل والخدمات اللوجستية، بالإضافة إلى خدمات مراقبة الأرض التي تزودنا ببيانات الطقس، والمناخ، والزراعة، وغيرها. كل هذه الخدمات تعتمد على بنية تحتية فضائية متطورة تشهد توسعا مستمرا، مدعومة باستثمارات حكومية وتجارية ضخمة، مما يجعل اقتصاد الفضاء أحد محركات الابتكار والنمو الاقتصادي في القرن الحالي.
يتألف اقتصاد الفضاء من مجالات فرعية متعددة، ويمكن تصنيفه وفقا لعدة طرق بناء على طبيعة النشاط أو الجهة المشغلة له. بصورة عامة، يمكن تقسيم أنشطة واقتصاد الفضاء إلى قسمين كبيرين: البنية التحتية الفضائية والخدمات الفضائية التطبيقية.
تشمل الصناعات الفضائية كل ما يتعلق بتصميم وتصنيع وإطلاق الأجهزة إلى الفضاء. يندرج تحت ذلك صناعة مركبات الإطلاق والصواريخ الحاملة للمركبات الفضائية، وتصنيع الأقمار الصناعية بمختلف أنواعها (الاتصالات، الملاحة، الاستشعار عن بعد وغيرها)، بالإضافة إلى إنشاء وتشغيل المرافق الأرضية الداعمة، كالمحطات الأرضية وهوائيات الاستقبال ومراكز التحكم. هذه البنية التحتية هي الأساس الصلب الذي تقوم عليه باقي الأنشطة الفضائية. شهدت الأعوام الأخيرة تطورات مهمة في هذا المجال، أبرزها انخفاض كلفة الإطلاق بفضل تقنيات الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، وازدياد عدد الأقمار الصناعية العاملة بوتيرة غير مسبوقة؛ فقد ارتفع عدد الأقمار التشغيلية في المدار من حوالي 3300 قمر نهاية عام 2020 إلى ما يفوق 6700 قمر في عام 2022، مدفوعا بإطلاق مجموعات ضخمة من الأقمار الصناعية التجارية.
هذا التوسع في البنية التحتية عزز قدرات الاتصالات والملاحة والمراقبة للأرض بشكل كبير.
يشمل قطاع الخدمات والتطبيقات الفضائية، الخدمات الاقتصادية كافة المستفادة من البنية التحتية الفضائية لصالح البشرية على الأرض. من أهمها خدمات الاتصالات الفضائية التي توفر بث القنوات التلفزيونية والاتصال الهاتفي والإنترنت عالي السرعة إلى جميع أنحاء العالم عبر الأقمار الصناعية.
يضاف إلى ذلك خدمات تحديد المواقع والملاحة (مثل أنظمة GPS الأمريكية وغلوناس الروسية وغاليلو الأوروبية)، والتي تتيح الملاحة الدقيقة للمركبات والطائرات والسفن، بل وتطبيقات حياتية يومية على هواتفنا الذكية. كذلك تشمل الخدمات الفضائية مراقبة الأرض والاستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية، والتي تزودنا بالصور والبيانات اللازمة لتنبؤات الطقس ومراقبة تغيرات المناخ وإدارة الموارد الزراعية ورصد الكوارث الطبيعية. تمتاز الخدمات الفضائية بأنها تشكل القسط الأكبر من العائد الاقتصادي لقطاع الفضاء حاليا.
وتشهد أيضا خدمات مراقبة الأرض نموا مع توسع استخدام صور الأقمار الصناعية في مجالات مثل الزراعة الدقيقة ومراقبة البيئة والتخطيط العمراني. وحتى سياحة الفضاء بدأت بالظهور كخدمة تجارية (وإن كانت لا تزال في مراحلها الأولى لعدد محدود من العملاء الأثرياء)، مع رحلات شبه مدارية تسيرها شركات خاصة.
يضم اقتصاد الفضاء مزيجا من برامج الحكومات الوطنية (كوكالات الفضاء الرسمية للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والهند وغيرها) وبين استثمارات القطاع الخاص وشركاته التجارية. تاريخيا هيمنت الحكومات على نشاط الفضاء، لكن العقود الأخيرة شهدت بروز اقتصاد الفضاء الجديد بقيادة شركات خاصة مبتكرة. حاليا، تلعب الشركات التجارية دورا رئيسيا في الاقتصاد الفضائي، حيث تشير التحليلات إلى أن الإيرادات التجارية شكلت نحو 78% من إجمالي اقتصاد الفضاء في 2023، بينما مثل الإنفاق الحكومي (بشقيه المدني والعسكري) حوالي 22% فقط، وتتوزع هذه الـ22% تقريبا إلى 13% إنفاق من حكومة الولايات المتحدة وحدها، و9% مجموع إنفاق بقية دول العالم. هذا يدل عزيزي القارئ، على أن القطاع الخاص بات المحرك الأكبر للنمو في اقتصاد الفضاء عبر تقديم خدمات ومنتجات لأسواق واسعة.
في الختام، إن تحقيق الاستفادة القصوى من اقتصاد الفضاء بشكل مستدام ومسؤول سيحتاج إلى التعاون الدولي تماما كما احتاج عصر الاستكشاف إلى قدر من التعاون (إلى جانب التنافس) بين الدول. في المحصلة، سيظل اقتصاد الفضاء مجالا واعدا يمتلئ بالتحديات والفرص، وقد يكون له في القرن الحادي والعشرين تأثير لا يقل أهمية عن تأثير اكتشاف العالم الجديد في تشكيل مسار التاريخ الاقتصادي والجيوسياسي للبشرية.
nabilalhakamy@
حيث بلغ حجم الاقتصاد الفضائي العالمي في عام 2023 نحو 570 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل زيادة بحوالي 7.4% عن قيمته في عام 2022 التي كانت نحو 531 مليار دولار. يعكس هذا النمو استمرار التوسع القوي في صناعة الفضاء عالميا بمعدل سنوي تراكمي يقارب 7% خلال السنوات الخمس الأخيرة، وقد تضاعف حجم الاقتصاد الفضائي تقريبا مقارنة بما كان عليه قبل عقد من الزمن، مما يبرز مدى تسارع التطور في هذا المجال. على الرغم من أن إجمالي إيرادات اقتصاد الفضاء لا يزال يشكل نسبة صغيرة نسبيا من الاقتصاد العالمي ككل (أقل من 1% من الناتج العالمي)، إلا أنه يعتبر من أسرع القطاعات نموا. تشير التوقعات، إلى استمرار هذا النمو القوي في المستقبل المنظور، فوفقا لتقرير حديث، تقدر شركة ماكينزي أن يصل حجم اقتصاد الفضاء العالمي إلى حوالي 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2035، مما يدل على آفاق مستقبلية هائلة لهذا القطاع الصاعد.
هذا الحجم الكبير للاقتصاد الفضائي، يعكس القيمة الاقتصادية المتنامية للأنشطة الفضائية المتنوعة. وتشمل هذه الأنشطة خدمات أصبحت أساسية في الاقتصاد العالمي اليوم، مثل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية (التي تربط المجتمعات عالميا وتوفر الاتصالات والإنترنت)، وخدمات الملاحة وتحديد المواقع عالميا GPS التي تدعم مختلف قطاعات النقل والخدمات اللوجستية، بالإضافة إلى خدمات مراقبة الأرض التي تزودنا ببيانات الطقس، والمناخ، والزراعة، وغيرها. كل هذه الخدمات تعتمد على بنية تحتية فضائية متطورة تشهد توسعا مستمرا، مدعومة باستثمارات حكومية وتجارية ضخمة، مما يجعل اقتصاد الفضاء أحد محركات الابتكار والنمو الاقتصادي في القرن الحالي.
يتألف اقتصاد الفضاء من مجالات فرعية متعددة، ويمكن تصنيفه وفقا لعدة طرق بناء على طبيعة النشاط أو الجهة المشغلة له. بصورة عامة، يمكن تقسيم أنشطة واقتصاد الفضاء إلى قسمين كبيرين: البنية التحتية الفضائية والخدمات الفضائية التطبيقية.
تشمل الصناعات الفضائية كل ما يتعلق بتصميم وتصنيع وإطلاق الأجهزة إلى الفضاء. يندرج تحت ذلك صناعة مركبات الإطلاق والصواريخ الحاملة للمركبات الفضائية، وتصنيع الأقمار الصناعية بمختلف أنواعها (الاتصالات، الملاحة، الاستشعار عن بعد وغيرها)، بالإضافة إلى إنشاء وتشغيل المرافق الأرضية الداعمة، كالمحطات الأرضية وهوائيات الاستقبال ومراكز التحكم. هذه البنية التحتية هي الأساس الصلب الذي تقوم عليه باقي الأنشطة الفضائية. شهدت الأعوام الأخيرة تطورات مهمة في هذا المجال، أبرزها انخفاض كلفة الإطلاق بفضل تقنيات الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، وازدياد عدد الأقمار الصناعية العاملة بوتيرة غير مسبوقة؛ فقد ارتفع عدد الأقمار التشغيلية في المدار من حوالي 3300 قمر نهاية عام 2020 إلى ما يفوق 6700 قمر في عام 2022، مدفوعا بإطلاق مجموعات ضخمة من الأقمار الصناعية التجارية.
هذا التوسع في البنية التحتية عزز قدرات الاتصالات والملاحة والمراقبة للأرض بشكل كبير.
يشمل قطاع الخدمات والتطبيقات الفضائية، الخدمات الاقتصادية كافة المستفادة من البنية التحتية الفضائية لصالح البشرية على الأرض. من أهمها خدمات الاتصالات الفضائية التي توفر بث القنوات التلفزيونية والاتصال الهاتفي والإنترنت عالي السرعة إلى جميع أنحاء العالم عبر الأقمار الصناعية.
يضاف إلى ذلك خدمات تحديد المواقع والملاحة (مثل أنظمة GPS الأمريكية وغلوناس الروسية وغاليلو الأوروبية)، والتي تتيح الملاحة الدقيقة للمركبات والطائرات والسفن، بل وتطبيقات حياتية يومية على هواتفنا الذكية. كذلك تشمل الخدمات الفضائية مراقبة الأرض والاستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية، والتي تزودنا بالصور والبيانات اللازمة لتنبؤات الطقس ومراقبة تغيرات المناخ وإدارة الموارد الزراعية ورصد الكوارث الطبيعية. تمتاز الخدمات الفضائية بأنها تشكل القسط الأكبر من العائد الاقتصادي لقطاع الفضاء حاليا.
وتشهد أيضا خدمات مراقبة الأرض نموا مع توسع استخدام صور الأقمار الصناعية في مجالات مثل الزراعة الدقيقة ومراقبة البيئة والتخطيط العمراني. وحتى سياحة الفضاء بدأت بالظهور كخدمة تجارية (وإن كانت لا تزال في مراحلها الأولى لعدد محدود من العملاء الأثرياء)، مع رحلات شبه مدارية تسيرها شركات خاصة.
يضم اقتصاد الفضاء مزيجا من برامج الحكومات الوطنية (كوكالات الفضاء الرسمية للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والهند وغيرها) وبين استثمارات القطاع الخاص وشركاته التجارية. تاريخيا هيمنت الحكومات على نشاط الفضاء، لكن العقود الأخيرة شهدت بروز اقتصاد الفضاء الجديد بقيادة شركات خاصة مبتكرة. حاليا، تلعب الشركات التجارية دورا رئيسيا في الاقتصاد الفضائي، حيث تشير التحليلات إلى أن الإيرادات التجارية شكلت نحو 78% من إجمالي اقتصاد الفضاء في 2023، بينما مثل الإنفاق الحكومي (بشقيه المدني والعسكري) حوالي 22% فقط، وتتوزع هذه الـ22% تقريبا إلى 13% إنفاق من حكومة الولايات المتحدة وحدها، و9% مجموع إنفاق بقية دول العالم. هذا يدل عزيزي القارئ، على أن القطاع الخاص بات المحرك الأكبر للنمو في اقتصاد الفضاء عبر تقديم خدمات ومنتجات لأسواق واسعة.
في الختام، إن تحقيق الاستفادة القصوى من اقتصاد الفضاء بشكل مستدام ومسؤول سيحتاج إلى التعاون الدولي تماما كما احتاج عصر الاستكشاف إلى قدر من التعاون (إلى جانب التنافس) بين الدول. في المحصلة، سيظل اقتصاد الفضاء مجالا واعدا يمتلئ بالتحديات والفرص، وقد يكون له في القرن الحادي والعشرين تأثير لا يقل أهمية عن تأثير اكتشاف العالم الجديد في تشكيل مسار التاريخ الاقتصادي والجيوسياسي للبشرية.
nabilalhakamy@