فهد عبدالله العنزي

حين تصبح البيوت صامتة.. لماذا لم نعد نتحدث؟

الخميس - 04 سبتمبر 2025

Thu - 04 Sep 2025


في زحمة الأيام، بين مواعيد العمل، وضغط الدراسة، وتشتت الانتباه بين الشاشات، تسرب الصمت إلى بيوتنا دون أن نشعر. أصبح كل فرد يعيش في «غرفته الخاصة»، حتى وإن كان يسكن تحت سقف واحد. ولم يعد الحوار جزءا من الحياة اليومية كما كان من قبل. لكن، هل نسينا أهمية الحديث؟ وهل أدركنا ما يسببه غيابه من برود في المشاعر، وبعد في القلوب؟

من خلال تجربتي في فترة الابتعاث بالولايات المتحدة الأمريكية، واجهت هذا التحدي مع أسرتي. البعد، والانشغال، والضغوط الدراسية والمتطلبات الحياتية، كلها عوامل قد تبعدنا عن ممارسة أبسط أشكال التواصل: أن نستمع لبعضنا بصدق. لكننا قررنا أن نعيد للكلام مكانه في البيت، فابتكرنا تقليدا بسيطا، لكنه عميق الأثر.

كل يوم أحد، نجتمع كأسرة، نطفئ التلفاز، نضع الهاتف والأياد جانبا، ونبدأ جلسة حوارية منظمة. نبدأها بآية الكرسي، كل أسبوع يكون هناك شخص يقرؤها، ثم لكل فرد الحق في الحديث: ليقترح، يشتكي، يعبر، أو فقط يشارك ما يشعر به. لا أحد يقاطَع. ومن يتحدث، يحظى باحترام السمع حتى ينتهي، ثم ينتقل الدور لغيره. والأجمل أن كل أسبوع نختار «مديرا للجلسة» من أفراد الأسرة، يتولى تنظيم الحديث وضبط أجواء النقاش.

قد تبدو الفكرة بسيطة، لكنها صنعت فارقا عظيما. أصبح لأبنائي صوت مسموع، ولزوجتي مساحة تعبر فيها براحة، ولي أنا لحظة حقيقية أتعرف فيها على تفاصيل لم أكن ألاحظها في زحمة الحياة. أصبحت هذه الجلسة «ركنا دافئا» في أسبوعنا، نعود فيه إلى بعضنا، لا لنناقش فقط، بل لنحتضن مشاعرنا.

الصمت في البيوت ليس راحة دائما. أحيانا يكون علامة على فتور، أو تراكم مشاعر لم تقال، أو حاجز غير مرئي بين أفراد الأسرة. والحل ليس معقدا، بل يبدأ بإرادة صادقة للحوار، ولو لبضع دقائق، في وقت محدد، بمكان يشعر بالأمان، ويضمن الاحترام والاهتمام.

وقد استوقفتني مؤخرا معلومة ذكرها أحد المحاضرين في لقاء تدريبي حول التقييم والتشخيص عن الاضطرابات النفسية، حيث أشار إلى أن أقل الفئات تعرضا للاكتئاب هم المتزوجون، مقارنة بغيرهم. ورغم أن لذلك تفسيرات متعددة ترتبط بطبيعة العلاقة، والدعم المتبادل، والاستقرار الاجتماعي، إلا أن القاسم المشترك الأوضح هو: وجود شخص يسمعك ويشاركك الحياة. هذا المعنى، حين يضعف داخل البيت، تبدأ النفس في الانكماش، وحين يستعاد، تعود للروح مرونتها، وللحياة معناها.

في زمن تتكلم فيه الأجهزة أكثر منا، نحتاج أن نستعيد صوتنا الإنساني. أن نتحدث، لا لنعارض فقط، بل لنتواصل، لنسأل عن حال بعضنا، لنشعر الآخر أننا نراه ونقدره، وأنه ليس مجرد رقم في جدول الحياة. فلنجرب... لعلنا نستعيد دفء البيوت، بكلمة بسيطة، وسؤال صادق «كيف كان أسبوعك؟»
من زاوية نفسية، الحوار داخل الأسرة لا يعبر فقط عن تبادل الآراء، بل هو حاجة نفسية أساسية، تعزز الشعور بالانتماء، وتخفف التوتر، وتقوي الهوية العاطفية لكل فرد. الطفل الذي يسمع ينمو بثقة، والمراهق الذي يحترم حديثه يتوازن نفسيا، حتى الكبار، حين يجدون من يصغي لهم بلا مقاطعة يشعرون بالأمان والدعم.

ولعل من أهم نتائج هذا التواصل العائلي المنتظم، أنه يكون لدى الأبناء ما يمكن أن نسميه بـ«(د) المناعة النفسية الأسرية»؛ شعور داخلي بأن هناك من يفهمهم، ومن يقف بجانبهم مهما تغيرت الظروف، وهي مناعة لا تبنى بالوصايا فقط، بل بالحضور والإنصات والحديث المتبادل.

البيوت التي تتكلم... هي بيوت تتنفس عاطفيا، وتمنح أبناءها حصانة نفسية في مواجهة ضجيج الحياة.

DrFahadAbd@