من المسجد الجامع إلى الجامعة: كيف فقد القلم البحثي الشرعي روحه تحت وطأة المناهج الأكاديمية؟
الأربعاء - 03 سبتمبر 2025
Wed - 03 Sep 2025
من يتأمل في كثير من الرسائل الجامعية اليوم يجدها جافة الأسلوب، باردة العبارة، كأنها تقارير رسمية لا رسائل علمية. والسؤال: كيف فقد القلم الشرعي تلك الروح التي عرفها تاريخنا؟
انظر إلى أقلام الأئمة الأعلام والعلماء الكرام ممن مضوا في تاريخ الإسلام.
إلى قلم ابن الجوزي الواعظ السيّال، وإلى ما في خزائن ابن تيمية من حجاج وسجال، وإلى موافقات الشاطبي الشامخات الطوال.
وتلمح بديع تحف ابن القيم وما خطه ذاك اليراع، وميل القلوب لما سطره الغزالي والأسماع، وإلى سيف ابن حزم المنكي الصداع.
إن حبر كل هذه الأقلام تفوح منه رائحة الإخلاص للدين والحرارة في الإيضاح والتبيين والعمل على رفعة شأن المسلمين.
والمتأمل يجد كأنها - أقلام هؤلاء الأعلام وأساليبهم - كانت في معارك تحت راية ملك واحد اقتضى الانتصار فيها تعدد الخطط وترتيب الجند وتنوع أدوات القتال ما بين سيوف ورماح ونبال. حتى خلفت هذه الحروب تراثا إسلاميا زاخرا ضخما لا يزال يلقي بظلاله على الواقع اليوم.
فكان هذا التنوع محمودا وفي الأمة معهودا وصرح العلم به مشيدا.
غير أن هذا الثراء الأسلوبي أخذ يتضاءل مع دخول الأنماط الجامدة إلى جامعاتنا الحديثة. حين ألقى الاستعمار على المسلمين بظلاله وأثر فيهم الاستشراق بضلاله، ومن ذلك مناهج البحث في العلوم الإنسانية والشرعية وأساليب الكتابة فيها.
فمعلوم أنه لم تنشأ المناهج والأساليب الأكاديمية الحديثة في فراغ؛ فقد تكونت أسسها في جامعات الغرب ضمن سياق تاريخي خاص. والحقيقة المعروفة أن مناهج العلوم الإنسانية وأساليبها الحديثة هي نتاج غربي خالص ارتبط بالتاريخ الثقافي والفكري للغرب، وعكس خصوصياته وإشكالاته.
والحديث هنا عن أسلوب الكتابة الأكاديمية لا المناهج.. فالمنهج ينمي مهارات النقد والتحليل والتأصيل، ويضبط عملية البحث ويجعلها قابلة للقياس.
وبالعودة للأسلوب فإنه أسلوب جامد، لقلم صدئ هامد، لا ترى له بين المبدعين حامد. كم سطا على قلم حر فكبله وآخر يانع فأجدبه وثالث فصيح فأبكمه.
أسلوب يجلب الرتابة وإن شئت فقل السآمة وإن زدت فقل الكآبة.
إنه لا يشفي صدور المسائل العلمية ولا يعرف قدر التحقيقات العقدية ولا يجمل خلاف المسائل الفقهية.
فغدت أغلب هذه الأبحاث قوالب باردة تملأ بكل شاردة وواردة. كأن وشاح الإيمان عنها مسلوب وتاج الإخلاص منها منهوب. ولا حرارة الإيمان فيها محسوسة ولا إبداعات الفصحى فيها مبثوثة بل هي منسوخة ملصوقة.
ولا شك أن هناك نماذج أخرى من رسائل وأبحاث شرعية مشرقة قد جمعت الحسنيين.
والدعوة لكل التخصصات الشرعية وأعضاء هيئة التدريس فيها أن يعيدوا النظر في هذا الأمر. وأن يفسحوا للطالب في هذه الجوانب دون إخلال قطعا في إيجابيات المناهج الأكاديمية الكبرى... فلم يعد يشعر الباحث في الدراسات العليا أن بحثه رسالة يحملها للعالم، نابعة من وجدانه قد خطها بجنانه قبل يمين بنانه، بل واجب ثقيل ينجزه لينال الدرجة، وما ذاك إلا لانفصال القلم عن القلب والعلم عن الروح.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى بعث الروح في أقلامنا، فنزاوج بين صرامة المنهج الأكاديمي ودفق البيان الشرعي الأصيل. ولا ندعو هنا إلى العودة التامة إلى أساليب الماضين وخلط ما يوجه للعامة من مؤلفات وللمختصين، ولكن العلم والقلم الشرعي لهما خصوصيتهما التي ستبقى ولو ضعفت أحيانا.
{كثير من المنشغلين بالمنهجية الأكاديمية في التخصصات الشرعية قد لا يتفقون مع المقال لحجج معلومة وردها كذلك معلوم، ولكن لا يتسع المقام لتوضيح ذلك، ولكنهم هم أول من يخالف المنهجية الأكاديمية في أكبر طوام التخصصات الشرعية، وهي وضع النتيجة أولا ثم جمع الأدلة لتأكيدها! فنقول مثلا في عنوان الرسالة قبل بحث الطالب لها: دعاوى المعتزلة في الأسماء والصفات ومخالفتهم للوحي. وهكذا...}. فهل نسمي هذا نفاقا منهجيا في قلب النظام الأكاديمي الشرعي؟ فإن قلتم إن هذه المواضيع مسلمات عقدية لا يجوز إخضاعها للشك المنهجي، فهذا اعتراف منكم بأن المنهج الأكاديمي المحض لا ينطبق على كل شيء في الشريعة. بل إن هذا انتهاك أساس المنهج العلمي (عدم تحيز النتيجة مسبقا) فكيف تجعلون تغييرنا شيئا من أسلوب الكتابة كهدمكم لأساس المنهج؟!