غزة.. احتلال يعيد الاحتلال على هيئة مذبحة
الأحد - 31 أغسطس 2025
Sun - 31 Aug 2025
الموت يقترب. والشمس باقية. قصة غزة في كل مكان. تفتح شهية كل تلفاز وصحيفة ووسيلة إعلام. تأتي على شكل وجبات ساخنة تقدمها شاشات الأخبار العالمية.
غزة باتت صديقة لكل غرفة جلوس بهذا الكون الفسيح. لأن القتلى أكثر من القبور. والمقابر أحن من بعض البشر. هي تخجل من عجزها عن استقبال زائريها.
الجميع مشردون، بلا مأوى، ولا منازل، ولا وطن. ركام البيوت أضاع مفاتيحها التاريخية، أزقة الشوارع غاضبة، والأرصفة منزعجة، والموت لا يجد من يهابه ولا يحترمه.
قصص الغزاوية تختصر أبشع أشكال التوحش في العصر الحديث. والجوع ملعون، تحول إلى عدو مبين. هو العنوان الرئيسي للحكاية القادمة من هناك. والسؤال الموحد الذي يخالج أذهان جميع أبناء القطاع من نساء وشيوخ وشباب وأطفال: هل تروننا؟
الحقيقة أن مناظر طناجر الأطفال المقدمة لمنظمات الغوث، بحثا عن حفنة من الغذاء، لمواصلة الحياة وترميم الأجساد النحيلة، أمر مقزز. قد يرقى لوصفه بالعار على الإنسانية. لقد هزت تلك المشاهد العالم بأسره، ولا تزال كذلك.
وبينما العالم يغلي؛ يقول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، إن نهاية أزمة غزة قد تتم بنهاية العام الجاري. وهذا الحديث فيه تناقض دولي مقيت. كيف؟ حين احتاج ترامب حلحلة أزمة أوكرانيا، التقى فلاديمير بوتين بسرعة البرق. جلس الرجلان، وظهرت الابتسامات، وفرش السجاد الأحمر، عقب أقل من أسبوع من ذلك الموعد، قرع ترامب جرس العقوبات ضد روسيا، إذا ما أنهى القيصر حربه على أوكرانيا. وواجه بوتين تلك التهديدات بهجمات ساحقة طالت مواقع هامة في كييف. ذلك كان الرد على طريقة ربيب المخابرات الروسية. السؤال: لماذا لم تدخل أزمة غزة في إطار تلك المنهجية الأمريكية، التي بحثت عن السلام بين روسيا وأوكرانيا؟ الجواب: ابحث عن المصالح الأمريكية في الأولى. وفتش عن استحقاقات بنيامين نتنياهو في الثانية.
برأيي وبعيدا عما سبق من استنتاجات عاطفية، يتضح أن المشهد معقد بكل تفاصيله، خصوصا من ناحية البحث عما يمكن اعتباره حلولا مرتقبة أو متوقعة، من شأنها إخماد النار في المنطقة.
والرؤية التي يفترض أن تكون شمولية بشكلها العام، يجب تفهم الأوضاع الداخلية في إسرائيل، كون أن أي حل للأزمة، بالضرورة أن يأتي من تل أبيب لا من الخارج. أزعم أن هناك عدة وقائع يجب أن تحدث، لتتحقق حلحلة الملفات العالقة. مثل ماذا؟
أولا: تغيير دراماتيكي داخل إسرائيل، كيف؟ من خلال كسر النمط الحالي، بانتخابات الكنيست المرتقبة في أكتوبر 2026، والخروج بسيناريو يؤدي لإقصاء حكومة بنيامين نتنياهو وحزبه من المشهد، ولا سيما أن هذا الأمر يجد قاعدة شعبية، يشكلها ذوو الأسرى لدى حركة حماس. وذا عنصر هام لأن تكون الأوضاع مهيأة بعض الشيء، لتحقيق ذلك.
ثانيا: هذا الأمر قد يحصل، بتحالف الأحزاب داخل الكنيست، والتي يجب عليها استقطاب الأصوات العربية، لخلق جبهة ضغط ضد الحكومة المتطرفة. ربما ذلك يبدو صعبا، لكنه ليس مستحيلا.
ثالثا: إن تم إقصاء نتنياهو عن إدارة ملف غزة، قد تأتي حكومة، يمكن التفاهم معها على الأقل بالحد الأدنى من الحلول، التي هي أرضية للتوافق أو التنسيق لإنهاء الأزمة الدائرة.
رابعا: – وهذا أسوأ الاحتمالات - أن يبقى الحال على ما هو عليه، ويستمر نتنياهو في منصبه لسنوات مقبلة، دون ضمانات لمنع فتح جبهات الاشتباك من جديد.
أتصور أن الحكومة الحالية في تل أبيب تعيش نوعا من الارتباك والانزعاج مما يمكن تسميته «أزمة المزاج الإسرائيلي الشعبي»، الذي تشكل بعد الهجمات الإيرانية على إسرائيل. فقد ساهم ذلك بتغيير توجهات الرأي العام داخل إسرائيل، وتحول الهدف من القضاء على حركة حماس إلى أمرين هامين. ما هما؟ أولا: تحرير الأسرى. ثانيا: توفير المناخ الأمني المناسب للمجتمع الإسرائيلي، الذي وصلت الصواريخ والمسيرات إلى عقر داره.
وهذا يقودنا لاستنتاج أن حالة العداء الشعبية لحركة حماس، تحولت إلى إيران. لماذا؟ لأن الهجمات الصاروخية الإيرانية ضد إسرائيل، كان لها وقع كبير من حيث الضرر، فقد دمرت أبراجا شاهقة في تل أبيب، وأصيب البشر بحالة من الخوف والهلع، ولم يكن المواطن الإسرائيلي يستطيع الخروج من الملاجئ إلا لبضع دقائق، ليعود لها ثانية، نظير حجم القوة النارية التي شكلتها تلك الهجمات، بعيدا عن انتهاج الحكومة تعتيما إعلاميا على حجم الأضرار التي لحقت بالبلاد.
إن لجوء تل أبيب لكل أشكال القوة المفرطة ضد قطاع غزة المدمر بالأصل، ليس من باب الاستعراض، إنما للتغطية على فشل حكومة نتنياهو بالوفاء بالوعود التي أطلقها للشارع الإسرائيلي، وعلى رأسها إطلاق سراح الأسرى، والقضاء على حركة حماس. المحصلة: لم ينجح لا بهذه ولا تلك.
بالعودة للقطاع، يمكن القول إن الدواء هناك معركة، ورغيف الخبز معركة، والطحين معركة، حتى القبور معركة. في القطاع بل فلسطين برمتها، لا أمان أبدي، ولا خلود أبدي، ولا وطن أبدي.
هناك حيث الأرض المسلوبة، القنابل هي من تكتب سيناريو البقاء من عدمه. في غزة تحديدا، الجوع هو المتسيد، والموت كذلك، تحت عنوان: احتلال يعيد الاحتلال.. على هيئة مذبحة.