الإنسان والأيديولوجيا: صراع القيم والانتماء
الثلاثاء - 26 أغسطس 2025
Tue - 26 Aug 2025
في عالم تتصارع فيه القناعات والمصالح، تبرز ظاهرة «المؤدلَجين» - من أي تيار أو حزب كانوا - كأحد أكثر التحديات الأخلاقية خطرا على النسيج الإنساني. فالمؤدلَج ليس مجرد حامل لرأي، بل هو شخص أذعن عقله وانفعاله لمنظومة فكرية مغلقة، جعل منها معيارا مطلقا للخير والشر، والولاء والعداء.
في سلوك المؤدلج، تنحسر الأخلاق لصالح الانتماء، وتفرغ القيم من معناها الإنساني لصالح معناها التنظيمي أو العقائدي. الصدق لا يطلب لذاته، بل إذا وافق المصلحة. والرحمة لا تمنح إلا لمن هم «من الجماعة». بل إن التعاطف يعد ضعفا، والحياد خيانة، ومجرد الإنصاف للخصم يصنف كفعل مشبوه.
إن أخطر ما في الأدلجة ليس فقط تحويل الإنسان إلى تابع، بل تحويله إلى أداة. ولعل من أقسى تجليات ذلك، أن المؤدلج يستطيع أن يقتل إنسانا ليس من حزبه أو يلحق به الضرر، لمجرد أن تأتيه الأوامر من مرشده أو قائده، حتى لو كان هذا الإنسان قد أكرمه واستضافه ومد له يد العون. فالولاء للتنظيم عنده يعلو على كل معروف، والانتماء الفكري يقدم على روابط الود والإنسانية.
ومما يغيب عن كثيرين أن المؤدلج - رغم صلابته الظاهرة - يعيش غالبا في حالة من القلق الداخلي واللاطمأنينة النفسية؛ إذ إن انصهاره الكامل في الجماعة يفقده ذاته المستقلة، ويلزمه بمواقف لا يقتنع بها، لكنه يبررها خوفا من النبذ. وهكذا، يتحول إلى أسير لا للفكرة، بل للحزب أو الجماعة.
أما الإنسان المتزن، نقي السريرة، غير المؤدلج، فلا تحكمه الشعارات العابرة، بل تقوده منظومة أخلاقية داخلية تعلي من الوفاء، وتصون الود، وتحفظ الجميل، وتترفع عن الغدر، حتى عند الخصومة. فهو لا يرى في الآخر خصما عقائديا، بل إنسانا يستحق الاحترام، مهما اختلف معه في الفكر أو الموقف.
قد تغري الأدلجة صاحبها بالشعور بالتفوق، لكنها تسلبه أعز ما يملك: الحرية الأخلاقية. فالمؤدلج لا يملك نفسه، بل هو أسير خطاب، مرتهن لموجّه، لا يعرف كيف يراجع أو يشك، ولا كيف يختار خارج القالب.
والمفارقة أن من يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، هم أكثر الناس عداء للنقد، وأكثرهم لجوءا إلى التبرير والتعمية، وأقلهم مساءلة للذات. إذ إن الأيديولوجيا تمنح معتنقيها شعورا زائفا بالنقاء، يعفيهم من المحاسبة، حتى وهم يرتكبون أبشع المظالم.
في النهاية، ليست المشكلة في أن يؤمن الإنسان بفكرة، بل في أن تتحول الفكرة إلى قيد، والعقيدة إلى تبرير دائم لكل فعل مشين. وحين تغتال الأخلاق باسم «الولاء»، يغدو الانتماء أداة تدمير لا بناء، وتفقد القيم معناها الأصيل.