باسم سلامه القليطي

المفضلات: رفوف القلب الخفية

الثلاثاء - 26 أغسطس 2025

Tue - 26 Aug 2025

في أحد الرفوف القديمة ببيت جدي، كنت أجد دائما كتابا عتيقا مكتوبا بخط جميل، واسمه (المفضليات)، مجموعة من القصائد الجاهلية، جُمعت لأنها كانت الأحب، الأجود، الأصدق، لم يكن الأمر عن ترتيب تاريخي أو منهجي، بل عن ذوق بشري صرف، ذوق أحب هذه القصائد، فرفعها إلى منزلة "المفضلة".

ومع أن الزمن تغير، والورق صار شاشة، والحبر أصبح خوارزمية، إلا أن فكرة التفضيل لم تغب عنا يوما، نحن لا نعيش فقط، بل نحب أن نختار كيف نعيش، نختار القهوة الأقرب لمزاجنا، والكتب التي تُربت على أرفف أرواحنا، والأغاني التي نعود لها حين يختنق الكلام، نحب أن نحب، ونحب أن نُفضل، في الحياة، التفضيل ليس رفاهية، هو الذي يمنحك الشعور بأنك تملك ذوقا، وأن لك قلبا ينبض بطريقة مختلفة، عندما تقول "هذا كتابي المفضل"، فأنت لا تصف فقط جودة النص، بل تصف نفسك، تقول "هذا أنا، هنا أجدني".

تفتح تطبيق تيك توك، فتجد ما يشبهك، وربما ما يفاجئك بأنه يشبهك أكثر مما ظننت، خوارزمية تتعلم من تفضيلاتك، من وقوفك الطويل أمام مقطع دون غيره، من تفاعلك العابر أو تعليقك المليء بالضحك أو الألم، وهنا يصبح ما يعرض علينا، ليس هو ما نختاره، بل ما يظن عنا أننا نفضله، وهنا يكمن السؤال المخيف:

من يختار تفضيلاتنا؟ نحن، أم من يراقبنا كي يعرف كيف نفضل؟

الأمر يتعدى الماديات، حتى الذكريات لها مراتب في القلب، "أجمل يوم في حياتي"، "أكثر موقف أضحكني"، "أول مرة سافرت"، "أسوأ لحظة مرت بي"، كلها عناوين لملف تفضيلات عاطفي لا يراه أحد سوانا، لكنه يكوننا، نعيد تشغيل الذكريات كأنها أغانٍ محفوظة، ونختار من عمرنا، ما يجعلنا نحب عمرنا أكثر.

نعم، نحن لا نحب الأشياء لأنها الأفضل موضوعيا، بل لأنها الأكثر تماسا بأطرافنا الحسية، الأشبه بنا في انكساراتنا الصغيرة، الأقدر على احتضاننا ونحن صامتون، تفضيلاتنا هي مرآة غير صافية لكنها مخلصة، لا تعكسنا كما نحن فقط، بل كما نحب أن نكون.

أعتقد أن الإنسان، في جوهره لا يبحث عن كل شيء، بل عن "شيئه الخاص"، وفي زحام هذا العالم، وسط ضجيج الخيارات والاقتراحات، تفضيلاتك هي خريطتك، هي الأماكن التي ترتاح فيها، والأصوات التي تطمئن لها، والكتب التي تعيد قراءتها لتتذكر من كنت حين قرأتها أول مرة، نحن مخلوقات تختار، ننجذب لما يشبهنا، ونصنع من التكرار دفئا، ومن الحب عادة، ومن العادة هوية.

وإذا تأملت في اختياراتك، ستعرف الكثير عن نفسك دون الحاجة إلى اختبارات شخصية أو تحليلات نفسية معقدة، من يعجبك حديثه؟ من تتابع بصمت؟ ما أول شيء تفتحه حين تصحو؟ ماذا تحفظ من أبيات؟ أي نكهة تجعلك تبتسم حتى وإن كنت حزينا؟ تلك التفاصيل، تلك "المفضلات"، هي قطع من نفسك متناثرة حولك.

في حضرة التفضيلات، تختفي لغة العقل، وتحضر لغة القلب، وفي عالم متسارع يصرخ في وجهك أن تتبع ما هو رائج، ما هو منطقي، ما هو الأكثر مبيعا، تبقى "مفضلاتك" الصغيرة فعل مقاومة ناعما، تقول به "أنا لست الجميع، أنا... أنا."

في الختام، قد تنسى الكتب، وتختفي التطبيقات، وتتغير الخوارزميات، لكن سيبقى في القلب رف خاص، كرف جدي القديم، أضع عليه كل ما أحببته يوما، حتى لو لم يكن مهما لأحد سواي، مفضلاتي ليست منطقية دائما، بعضها لا يمكن شرحه، وبعضها لا يروق لغيري، لكنها ببساطة "تشبهني"، وهذا يكفي، ولعل أجمل ما في التفضيلات، أنها لا تحتاج لتبرير.