عبدالله قاسم العنزي

التعويض المعنوي في النظام السعودي

الأحد - 24 أغسطس 2025

Sun - 24 Aug 2025



حينما يظن البعض أن العدالة تعني فقط إعادة المال إلى جيب صاحبه أو إصلاح الشيء التالف، يغيب عنهم أن هناك أضرارا لا ترى بالعين ولا تقاس بالحسابات البنكية، بل تحس في النفس وتسجل في الذاكرة، وتترك أثرا طويلا لا يمحوه الزمن.

ومن هنا جاء مفهوم التعويض المعنوي، الذي اعترف به بوضوح في نظام المعاملات المدنية، ليضع إلى جانب التعويض المادي بابا آخر لجبر الخاطر وصون الكرامة الإنسانية.

ونظام المعاملات المدنية ينص في المادة (138) «كل من لحقه ضرر من جراء فعل غير مشروع له الحق في التعويض».، ثم يؤكد في المادة (141) أن التعويض يشمل ما أصاب المضرور من خسارة وما فاته من كسب، سواء أكان ضررا ماديا أو معنويا. هذه العبارة تفتح الباب واسعا أمام القاضي للنظر ليس فقط في الجراح المالية، بل أيضا في الجراح النفسية والاعتبارية، التي قد تكون أعمق وأشد.

ولعل أقرب مثال لذلك قضايا التشهير في وسائل التواصل الاجتماعي. شاب نشرت عنه إشاعة غير صحيحة في مقطع قصير، فانهالت عليه التعليقات والاتهامات. لم يخسر مالا في تلك اللحظة، لكنه خسر سمعته واعتباره بين زملائه وأهله، فرفعت الدعوى، وقضت المحكمة له بتعويض مالي يحمل معنى الاعتراف بضرره المعنوي، وإن لم يكن المال مساويا لقيمة ما فقد من كرامة.

وفي حادثة أخرى، تعرضت أسرة لفقد ابنها في حادث مروري وقع بسبب تهور سائق آخر. المحكمة لم تحصر التعويض في نفقات العلاج والدفن، بل قضت بمبلغ إضافي للأسرة تحت بند التعويض المعنوي عن الألم النفسي الذي لحقهم بفقد المعيل، معتبرة أن العزاء لا يكفي لجبر هذا الضرر.

أما في قضايا العمل، فقد شهدت المحاكم أحكاما تقضي بتعويض الموظف الذي فصل تعسفيا بطريقة مهينة. لم يقتصر الأمر على صرف مستحقاته المالية، بل رأت المحكمة أن الفصل المفاجئ وما رافقه من تشويه لسمعته المهنية يستوجب تعويضا معنويا، في رسالة واضحة بأن مكانة الإنسان العملية جزء من اعتباره.

وتبرز كذلك قضايا الأسرة، حيث لجأت بعض الزوجات إلى القضاء بعد أن أساء إليهن أزواجهن بعبارات جارحة أو فضح لحياتهن الخاصة عبر مواقع التواصل. هذه الأفعال لا تكسر العظم ولا تجرح البدن، لكنها تجرح الروح، فحكمت المحاكم بتعويضهن عن الأذى المعنوي، إقرارا بأن كرامة الإنسان لا يجوز أن تمس بلا جبر.

وفي مثال آخر يوضح تنوع صور الضرر، تأخر إحدى المدارس الخاصة في تسليم شهادة طالب لولي أمره، رغم استيفاء الالتزامات المالية كافة. هذا التعطيل تسبب بحرمان الطالب من التسجيل في جامعة في الموعد المحدد. هنا اعتبرت المحكمة أن الضرر لم يكن ماديا فقط، بل معنوي أيضا لما سببه من قلق وإحباط، فقضت بتعويض عن الضرر المعنوي بجانب ما لحق الأسرة من أعباء مادية.

كل هذه الأمثلة - الفرضية - تعكس مرونة القاضي في تقدير حجم الضرر المعنوي، والذي لا يقاس بعدد الأرقام بقدر ما يقاس بعمق الأثر. وقد منح النظام هذه السلطة للقضاء حتى يوازن بين خصوصية كل حالة، فلا تعويض معنوي يشبه الآخر، فالمعيار دائما هو: ما الذي لحق بالمضرور من ألم أو حرج أو فقدان اعتبار.

إن التعويض المعنوي ليس بابا للترف أو المطالبة بالمال من غير حق، بل هو وسيلة لتحقيق التوازن بين الضرر الذي يصعب قياسه وبين العدالة التي لا ينبغي أن تفرق بين الجرح المادي والجرح النفسي. بهذا الفهم يصبح النظام السعودي أكثر التصاقا بروح العدالة، وأكثر استجابة لحاجات الناس في واقعهم اليومي.