أمريكا والإمبراطورية الرومانية: هواجس التاريخ وطمأنينة السؤال
الأحد - 24 أغسطس 2025
Sun - 24 Aug 2025
التاريخ لا يعيد نفسه حرفيا، لكنه يترك صدى يهمس في آذان الأمم. ومنذ ولادة الجمهورية الأمريكية، كان لروما القديمة مكانة خاصة في مخيلة القادة والمفكرين. ليس غريبا إذن أن تعود المقارنة إلى الواجهة في كل أزمة أمريكية، وأن يسأل الناس: هل نحن روما؟
هذا السؤال لم يختفِ قط. ظهر في كتابات الصحافة، في الجامعات، وحتى في مقالات تصف أحداث السادس من يناير 2021 كأنها إعادة لمشهد سقوط روما. لكن الحقيقة أن القلق ليس جديدا، بل هو قديم قدم الجمهورية الأمريكية نفسها.
لماذا لم يختر الآباء المؤسسون أثينا؟
قد يتبادر إلى الذهن أن النموذج اليوناني - مهد الديمقراطية المباشرة - هو الخيار الطبيعي لتأسيس جمهورية حديثة. غير أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية كانوا أكثر واقعية وبعد نظر. فقد درسوا تجربة أثينا ووجدوا فيها بريقا فكريا عظيما، وهشاشة سياسية مقلقة.
الديمقراطية الأثينية اعتمدت على مشاركة مباشرة من المواطنين في اتخاذ القرار. كانت مدرسة للفكر، لكنها فشلت في الصمود أمام الانقسامات الداخلية، صراعات الفصائل، وضغوط الحروب الخارجية. أعجب بها المؤسسون كفكرة، لكنهم أدركوا أنها لم تقدم آلية متينة لحماية الدولة من الفوضى.
أما روما، فكانت شيئا آخر. هنا وجد المؤسسون ما يحتاجون إليه: نظاما جمهوريا معقدا ومرنا في آن واحد، يقوم على فكرة الدستور المختلط كما وصفه المؤرخ اليوناني بوليبيوس. روما لم تترك الحكم كله بيد الشعب، ولا حصرته بيد طبقة النبلاء، ولا سلمته لحاكم مطلق. بل جمعت بين العناصر الثلاثة: القنصل يمثل السلطة التنفيذية (أشبه بالرئاسة الأمريكية)، مجلس الشيوخ يمثل الأرستقراطية (نظير مجلس الشيوخ الأمريكي)، والجمعيات الشعبية تجسد صوت العامة (ما يقابل مجلس النواب).
هذه المعادلة هي ما جذب الآباء المؤسسين. لم يريدوا دولة براقة تنهار سريعا، بل جمهورية تدوم، حتى لو عاشت صراعاتها الداخلية.
روما في خيال الآباء المؤسسين
منذ البداية، استعار الآباء المؤسسون رموز روما. كتب ماديسون وهاملتون وجاي، مقالات الأوراق الفيدرالية تحت اسم «بوبليوس»، تيمنا ببوبليوس فاليريوس بوبليكولا، أحد الرجال الذين أسقطوا الملكية وأسسوا الجمهورية الرومانية سنة 509 قبل الميلاد.
أما جورج واشنطن، فكان يُشبَّه بالقائد الروماني سينسيناتوس، الذي دافع عن روما في ساعة الخطر، ثم تخلى عن سلطاته ليعود إلى حقله. لم يكن التشبيه عابرا، بل رسالة سياسية واضحة: السلطة في أمريكا وسيلة لحماية الحرية، وليست غاية بحد ذاتها.
قلق أمريكا المستمر: هل نحن روما؟
منذ ذلك الحين، باتت روما مرآة لأمريكا. كل أزمة تعيد المقارنة: في زمن الحرب الأهلية، في فترة الحرب الباردة، وأخيرا في عهد دونالد ترامب.
بعض الكتاب شبهوا ترامب بقيصر: زعيم يعد الناس بعودة أمجاد قديمة، بينما يصطدم بالمؤسسات ويتجاوز الأعراف السياسية. آخرون رأوا في أحداث اقتحام الكابيتول استنساخا لسقوط روما. غير أن المقارنة، وإن كانت مغرية، تتجاهل فروقا جوهرية.
فترامب لم يكن يسعى لتوسيع حجم الحكومة أو إخضاع السوق بقبضة الدولة، بل العكس: تقليص الضرائب، تقليل اللوائح، وتجنب الحروب الخارجية. هذه ليست سمات الطغاة الذين صنعوا إمبراطوريات، بل سمات زعيم يحاول إعادة الدولة إلى الداخل.
ومع ذلك، تبقى المخاوف حاضرة، لأن السؤال نفسه يعكس قلقا وجوديا: هل يمكن لجمهورية أن تصمد إلى الأبد؟
درس تاكيتوس وسقوط الجمهورية
التاريخ الروماني يقدم الإجابة القاتمة. فالجمهورية لم تسقط بقرار واحد، بل بسلسلة من الحروب الأهلية أنهكت الشعب والنخبة. وبعد اغتيال قيصر، جاء أوكتافيوس - الذي صار أغسطس - ليمنح روما السلام، لكنه في المقابل جمع السلطات كلها بين يديه.
كتب المؤرخ تاكيتوس أن أغسطس أغرى الجنود بالعطاءات، والعامة بالقمح، والطبقة العليا بوعود الاستقرار. لم يفرض الاستبداد فرضا، بل طلب طوعا من شعب سئم الفوضى. وصف تاكيتوس المشهد بكلمات حزينة «تسابقوا جميعا نحو العبودية، وكلما علا المنصب، زاد النفاق والسرعة».
إنه درس يتردد عبر القرون: أخطر تهديد للجمهوريات ليس في رجل قوي يطلب السلطة، بل في شعب مرهق يتنازل عنها.
الفارق الأمريكي
ومع ذلك، ليست الولايات المتحدة نسخة عن الإمبراطورية الرومانية. هناك فارق جوهري: الدستور المكتوب. الجمهورية الرومانية قامت على أعراف وتقاليد أكثر مما قامت على نصوص ملزمة. لذلك كان التلاعب بها سهلا في أوقات الأزمات. أما الدستور الأمريكي، فقد صمم مكتوبا، قابلا للتعديل عند الحاجة، لكنه يظل مرجعا أعلى يصعب تجاوزه.
الأهم من ذلك أن الأمريكيين لم يتوقفوا عن سؤال: هل نحن روما؟ منذ التأسيس وحتى اليوم، ظل القلق حيا. وهذا القلق نفسه هو ما يحمي الجمهورية. لأن أخطر يوم قد يأتي، هو اليوم الذي يتوقف فيه الأمريكيون عن طرح هذا السؤال.